داليا الحديدي تكتب: بائعة متجر ماتالان
البارحة كانَ آخرٌ يومٍ تقرعُ فيهِ أجراسُ الصباحِ لإيقاظِ صغاري للذهابِ للمدرسةِ واليومِ يموءُ الجرسُ معلنًا انتهاءَ الحقبةِ الأخصبِ في حياتنا، وسنعيشُ غدا لنقطفَ حصادَ الذكرياتِ منْ سلالِ أجراسِ الأمسِ
■■
اشتريتُ الجرسُ الحديديُ العتيقُ منْ سوقٍ "واقفٍ " بالدوحةِ والذي يقابلهُ "الحسينْ " في القاهرةِ ، "الحامدية" في دمشقَ ، "الكاظميةَ" ببغداد ، " المباركية " بالكويتِ ، "البخاريةَ " بعمان ، و"سوقَ السمارينْ" بمراكش.
■■
حينُ لمحتْ الجرسَ ، تذكرتْ يوم ذهبتْ صغيرةً لقرعِ جرسِ انتهاءِ الحصةِ الأخيرةِ بمدرستيْ ، كانَ معلقًا بواسطةِ جنزيرٍ صلدٍ بمكانٍ يتوسطُ الأدوارَ ومطلٌ على نافذةٍ شاهقةٍ تتلصصُ على فناءِ المدرسةِ ما سمحَ لي بمراقبةِ مشاهدِ الحوش التي توالتْ علي كصفحاتِ كتابٍ يتدفقُ بينَ يديْ قارئٍ,
■■■
ها هيَ الحافلاتُ تصطفُ داخلَ الفناءِ كجنودِ دولِ العالمِ الثالثِ أثناءَ طابورِ عرضٍ ، ها هوَ " الأوتوكارْ " رقمَ 7 والأكثر أناقةَ المخصصِ لضاحيةِ "وسطِ البلدِ" بالقاهرةِ . وكانتْ طالباتُ تلكَ الحافلةِ يتفاخرنَ بهِ تفاخرَ هوانمَ معادي السراياتِ بإنتماهنْ لهذا الحيِ الأرقى,
..
بأقصى اليمينِ ، يتشامخ البناءَ القوطيَ لكنيستنا الحمراءِ، يقابلهُ ملعبُ كرةِ اليدِ، وبوسطِ الفناءِ تقفُ الأشجارُ فاغرةً فروعها كأذرعِ الأمهاتِ (الأمةُ) حينَ تأوي إليهنَ الطالباتُ أثناءَ التسباقِ، وهنالكَ يشاغبُ ملعبَ كرةِ السلةِ على مرمى قبلهِ منْ بوابةِ المدرسةِ الجنوبيةِ.
..
وفجأةٌ، لمحتْ خلفَ الحافلاتِ شقراء تجسدُ الأقانيمُ الثلاثُ لآلهة الأناقةِ "الأنوثةِ ، الرقيُ والتميزُ "، أنثى عليكَ أنْ تحلقَ لرؤيتها، أما لوْ كسرتْ رمشكَ لخائنةِ الأعينِ ، فهيهات أن تبصرها، فهيَ السموّ وهيَ انطلاقُ الغجرِ,
■■■
كانتْ طويلةً كأرقٍ ، فاتنةً كترفٍ ، صاخبةً كحربِ وسائد، أصيلةً كأيقونةٍ أرثوذوكسيةٍ، هندامها المخمليُ آسرٌ كاستقبالِ الملكْ حسينْ.. وقفتها راسخةِ كمعتقدٍ ، شعرها شجرُ الآسَ . بتلك الهيئة راحتْ تنتظرُ ابنتها متوجةً بابتسامةِ المقبلينِ على الحياةِ. كانتْ أشبهَ بحلوى الغربِ أوْ معطفْ فرو ، أناقتها المشاغبةُ زاحمتْ الشحرورة والأميرةِ ديانا على عرشِ الأناقةِ,
■■■
خلتها قبلةَ بحرِ التايمزْ على جبينِ نهرِ النيلِ أو قوسُ قزحٍ يضاجعُ ديمة، قارورةٌ فودكا وسطَ عصائرَ معلبةٍ في صفيحٍ .. كانتْ الصومَ والنهمَ بقلبِ راهبةٍ . قدحُ منْ القهوةِ الفرنسيةِ محليٌ بثغرِ نبيذي لثيبِ بكاملِ مشمشها على حدِ وصفِ درويشْ,
طلتها تمنحكَ متعةُ أولِ خطوةٍ على الباركيه المسمارِ اللامعِ عقبَ المشيِ دهرا على "الكنالْ تيكسْ". أنثى أذابتْ الأناقةُ في قارورةِ جسدها المزخرفِ فدلتْ على أنَ الذوقَ سباح ينتشلُ الغرقى منْ ظلماتِ القبحِ وشلالِ نورٍ يزيلُ بقعَ العتمةِ منْ الإدراكِ.
■■■
صخبُ أناقتها كانَ يرعشْ السكونُ فانتبهتْ وقرعتْ الجرسَ في فرحِ حتى تأرجحتْ يدايَ على وقعِ تتبعها كجمهورٍ يستمعُ "لمايكلْ بوبليهْ"وهوَ يغني "Sway"، ثمَ عدوتُ للصفِ بجناحي عصفورْ خط على صفحاتِ السماءِ موعدَ الحريةِ وعوضًا عنْ حملِ حقيبتيْ للرحيلِ، التصقتْ بالشرفةِ، فشاهدتها بعيدةٌ كأمنيةٍ ، لكنَ قابَ غفوتينِ منْ خياليٍ ، ورحتُ أرقبُ تفاصيلُ هذا الألقِ الذي نادرًا ما نصادفهُ منْ ربةِ منزلٍ.
■■■
أحسب أن الشقراء اقتحمتني اقتحامَ نازكْ الملائكة والماغوطْ لقصيدةِ النثرِ ، خلتها مضمخةٌ بنسيمِ "ديكادونسْ ماركِ جاكوبْ "، الذي طارَ منْ طرفِ الفناءِ حتى وصلَ لمقعدي فقرأتْ تعويذةُ الذوقِ بالتشكيلِ، سطرَ سطرُ وفقرةُ فقرةٍ حتى غمرتني بتفاصيلها كسيولِ شتاء ليلةٍ لندنيةٍ.. لكني – عنْ قصدٍ - أغمضتْ المظلةُ لاحتميَ بهذا الغيثِ ، حيثُ يفزْ القبحُ حينَ يراها ويلقي الهندامُ على الأنامِ عباءةَ الرفعةِ.
■■■
شقراء كتلكَ عبارةٌ عنْ سهمِ منْ فردوسِ الرقيِ بينَ فدنْ منْ جحيمِ العشوائياتِ ، تخالها سليلةُ عقدِ قرانِ "بيرْ كاردانْ" على "شانيلْ ". كانتْ فساتينها كناري يتثاءبُ بجناحيهِ غيرِ عابئٍ بلهبِ تقاليد المشرقِ . يهيأ لكَ أنَ أجراسَ المدرسةِ تقرعُ تحيةً لقدومها، كزغاريد الفلاحات لدى زيارةِ قرابتهنَ منْ بناتِ البندرْ . امرأةٌ منقلبةٌ على سننِ التقليدِ وكأنها وعد بالإبداعِ.
■■■
أعتقد أني أدينَ للشقراءِ بمعاداتي "للكلِ شيءً كانَ"، فقدٌ أوغرتْ صدري على العاديِ وقيدتْ تحملي للغثِ مهما حاولتْ التقبلَ تحتَ دعاوى الرضى أوْ دواعي التأقلمِ . كانتْ محرضتي للسخطِ على البشاعةِ كما رسختْ حقي في رفعِ استحقاقاتي منْ حصتي في الرقيِ ، فحضورها كانَ كفيلاً بإشعالِ ثورةِ احتجاجٍ على الأسنانِ الصفراءِ ، القلوبُ السوداءُ والمظهرُ الباهتُ . لقدْ كانتْ درسا مكثفا في الملاحةِ يوم كانتْ جدائلُ عمري مزينةً بشرائطَ ورديةٍ وللغرابة فقد بقيتْ في دوحْ خاطري حتى غدي.
صورتها كانتْ تستحثني نحوَ الشمالِ حينَ كانَ واقعيٌ يدفعني نحوَ الجنوبِ . وكلما كنتُ أقنعَ بالسباحةِ في قيعانِ المقبولِ القاتمةِ كنتُ أتقهقر بذاكرتي لضوضاءِ جرسِ الماضي ، وتلكَ الظهيرةُ التي وقعتْ فيها الشقراءُ بقلمِ حمرةٍ على إدراكي بتوقيعِ " الايليجنسْ ". ومازلت أتشبثُ بطيفها كمتشردِ يقبض على كأسِ زخرفِ الحياةِ بكلتا يديهِ.
■■■
كنتَ ألوذُ بالنافذةِ بانتظارِ هلالِ الظهيرةِ كما ينتظرُ وليَ العهدِ يومَ تتويجهِ . انتظرْ وانظرْ بعيونٍ تلهث وزفيرٌ لسجينٍ يتطلعُ منْ شرفتهِ لصباحِ حرٍ . فقدْ كانتْ نفسي تتماهى معَ أناقتها وتتوقُ لصورتي القادمةِ في مرآةِ المستقبلِ ، وبت أفكرُ في الحبِ بأناقةِ والخصومةِ بأناقةٍ، المشاعرُ الأنيقةُ والهديةُ الأنيقةُ ، الاعتذارالأنيقْ ، الانسحابُ الأنيقُ والحرفُ الأنيقُ و حبذا لو كانت الحياة أنيقة.
■■■
كانتْ العودَ والنسائمَ وكانتْ الحواسُ . كانتْ كمالَ اللا منظوميةٍ في قصيدةِ نثرٍ ، كانتْ أعذبَ منْ أغاني الرعيانْ وأشهى منْ قبلُ النهايةِ في أفلامِ الستينياتِ وأكثرُ إلهاما منْ استهلالتْ رواياتِ تولستوي وخواتيمُ قصصِ إدريسْ وتواقيعُ بيكاسو.
كانتْ كفجرياتْ معادي السراياتِ، وصباحاتِ الزمالكْ، وبكور كورنيش المنشية وظهيرةِ بيشيكتاشْ، وساعةُ الأصيلِ في جاردنْ سيتي، ورواحِ الكرادة، ومغربيةٌ الروشة وليلِ قاسيونْ.
كانتْ كزينةِ شجرةِ الميلادِ بفندقِ "كمبينسكي باهيا" بمارابيلا بإسبانيا . مشيتها دخانَ "كابتنِ بلاكْ " يسابقَ رائحةً " الشامبينْ " في أروقةِ السفاراتِ . لمْ تكنْ " ماكسيماليستا " إلا أنها كانتْ دليلاً على أنَ بساطةَ الملبسِ تنطوي على جهدٍ معقدٍ وتفاصيلَ مكلفةٍ للوقتِ قبلَ المالِ . وعلى هذا لمْ تكنْ تتقيدُ بكلاسيكيةِ جاكلينْ كينيدي ، بلْ كانَ لها خطوطها الذهبيةِ التي أضفتْ شمسُ الصبا على عصرِ شبابها.
■■■
بالمقابل، كانتْ أمهاتُ تلكَ الحقبةِ قدْ ألفنَ إهمالُ العنايةِ بالمظهرِ إيلافهنْ لبقعِ فوطِ المطبخِ ، فالمجتمعُ تعاملٌ في تلك الفترة معَ زينةِ النساءِ كأثداء العجائز والناياتِ المعطلةِ لا جدوى منها، كما منعنَ منْ إفراغِ مواهبهنَ إلا في آنيةٍ البيتِ، حتى المضاجعةِ للإنجابِ أوْ لأداءِ واجبٍ، لا لمتعةِ حلالٍ. وبعضهنَ أنكرَ أهميةَ الجمالِ كما تنكرَ الخاطئةَ وليدها وهناكَ منْ بحثنَ عنْ مناسباتٍ لتبريرِ التجملِ بعدَ الزواجِ ، وسمعنا منْ نحلِ منْ المقدسِ مسوغاتٍ تمجدُ إهمالَ المرأةِ لنفسها . لذا ، مورستْ الأناقةُ – أحيانا - في الخفاءِ كعادةٍ سريةٍ لقيانِ معَ منْ دفعِ المهرِ.
■■■
ما أصعبُ مجابهةِ مجتمعٍ يروجُ للقبحِ ويحضُ على سحقِ النساءِ والتلاعبِ بعقولهنَ لقبولِ الذلِ دونَ شكوى ، فباتَ البعضُ يعطسُ ما يروجُ لهُ الكهنةُ ورأيتُ منْ يستمتنْ لنيلِ شهادةٍ تثبتُ أنهنَ مقهوراتٍ كما يجبُ أنْ يكونَ عليهِ القهرُ (عالبكلة)!
■■■
هذا عدا عنْ مزايداتِ سحقِ الذاتِ ، فختانُ المرأةِ والذي يعدلُ خصيانُ الذكورِ ، يمارسَ عليهنَ فيعدنَ اقترافهُ بحقِ بناتهنَ كنوعٍ منْ تحويلِ المظلوميةِ ، وتجدَ منْ تتفاخرُ أنَ تسعينَ في المائةِ منْ وقتها تهبهُ لأسرتها، فتزايدَ عليها جارتها بأنها تهبهمْ المائةُ كاملةً!
لذا أسجلُ أنَ ارتفاعَ أكلافِ الحياةِ ليسَ السببُ الوحيدُ لعدمِ انشغالِ المرأةِ بالجمالياتِ، فبعضُ المجتمعاتِ لا تمنحُ المرأةُ سوى حقِ المأكلِ والمشربِ أما الكسوةُ فللسترةِ لا للجمالِ، كما يكونُ مقابلِ الإذعانِ والخدمةِ، ما يعني أنَ التجهيلَ بالحياةِ الكريمةِ متعمدٌ ، وأن الكلماتُ المنشورةُ والمطويةُ والمقلوبةُ مقصودةً منْ بطانةٍ باتتْ مكشوفةً.
■■■
الشقراءُ لمْ تتبرجْ " للإنستجرامْ " بلْ كانتْ أيقونةٌ للعنايةِ بالذاتِ . نظرةٌ سريعةٌ لها تثيرُ شهيتكَ لمتابعةِ تفاصيلِ المجهودِ البشريِ المبذولِ طلبا للحسنِ في كلِ بوصةٍ منْ جسدها وفي " الافترْ تيستْ " بعدِ رواحها . فطلتها وقدْ التفَ الشالْ بالشالِ ، تشعركَ أنهُ إلى الدنيا يومئذٍ المالَ . فلا " غراتسْ " ترقى لجمالها ولا لوحاتٍ " مونيهْ " توازي سحرها، عدا أن فتنتها كانتْ كفيلةً بأنْ يغضَ "سيباويهْ" الطرفُ عنْ جرائمها النحويةِ.
..
كنتَ أجهلُ اسمها وما جرؤتْ على التحري ، فقدْ خفتْ أنَ اقتربتْ احترقتْ ، لكني سميتها " شنتالْ".
■■■
أما أنا فقدْ مضتْ بي الأيامُ فدرستَ ، تزوجتْ ، أنجبتْ وضربتْ قاعَ المحيطِ في إهمالي لنفسي ، وحدها الشقراءُ كانتْ مهمازا محرضا للترقي، فتمنيتني بصورةٍ أنيقةٍ تصبُ المناسبَ في كأسِ المكانِ . ثمَ بدأتْ تأسيسَ مشروعي تجاهَ نفسيٍ لتحسين الجوهر والمظهر
■■■
وأذكرُ أني دعيتْ لحضورِ مجلسٍ لأولياءِ الأمورِ بمدرسةِ صغاري ، فتحضرتْ بكلِ ما أوتيتْ منْ ذكرياتٍ شقراءَ ، ولدى وصولي لفناءِ المدرسةِ وجدتْ عيونٌ بناتيٍ تتوسلُ إلى بالرحيلِ ، وأيديهمْ كأطفالٍ يطردنَ موجةٌ توشكُ أنْ تغرقهمْ في بحرِ الخجلِ ، لكنني حضرتْ المجلسَ ثمَ خرجتْ لأجد بناتي يتهامسنَ ، فقالتْ إحداهنَ
: " أتحسبُ نفسها " صباحَ " في " ليلةٍ بكى فيها القمرُ " ؟
لتردٍ الصغرى : تبدو كقرصانٍ
وفي اليومِ التالي عدنَ منْ المدرسةِ ، فغمرتني الكبيرةُ بالإطراءِ فيما ألحتْ الصغرى علي بالحضورِ يوميًا للمدرسةِ، فالمعلماتُ والزملاءُ أشادوا بأناقةِ والدتهنَ
ساعتئذٍ تأكدتْ أنَ قيمةَ الجمالِ ليستْ راسخةً في نفوسهنَ بلْ مشروطةً برضاءِ محيطهنَ
■■■
■■■
وفي محضٍ مشروعي تجاهَ نفسي شرعتْ في استكمالِ دراستي العليا ، فستةُ عشر عاما منْ الدراسةِ ليستْ كافيةً لمواجهةِ الإنسانِ لتحدياتِ حياتهِ . بالطبعِ ، واجهتني كومة تحدياتٍ منها مواجهةَ محيطيٍ بالتفكيرِ في الارتقاءِ بمستوايَ العلميِ في وسطٍ يتعاملُ معَ النساءِ على أنهنَ أفعالُ مساعدةٍ للآخرينَ ، إلا أنَ الصعوبةَ الأكبرَ كانتْ في مواجهةِ نفسيٍ بنواقصها .
فمثلاً ، لطالما روجتْ لكوني أتحدث لغاتٌ وكنتَ أعتقدُ أنَ إنجليزيتيُ منْ المسلماتِ ، لكنْ فوجئتْ أنها لا تسمحُ لي سوى بالتبضعِ منْ متجرِ "هارودزْ " ، أما جامعتيْ فوضعتْ معاييرُ دقيقةٌ للمستوى المقبولِ ، فتقدمتْ لامتحانِ "الأيلتسْ" ثلاثَ مراتٍ حتى تمتْ إجازتي! كما توقفتْ عنْ التعاملِ معَ الزمنِ وكأنهُ عاشقٌ بانتظاري .
..
أحسبُ أنَ نجاحي اقترنَ بفيزياءِ المثابرةِ فكثيرا ما عانيتْ من صعوبةَ التركيزِ معَ ضعفٍ بصريٍ ، عدا الواجباتِ الأسريةَ التي تشتتَ الانتباهُ، لكنَ حينَ أزفتِ الآزفةُ وضعتْ لافتةً على بابِ مكتبي ترجو عدمَ الدخولِ. وعشتُ سجينةَ هذا المكتبِ وبهِ نافذةٌ تطلُ على الشارعِ وملحقٍ بهِ حمامُ لهُ مرآةٌ صغيرةٌ لها إضاءةٌ خافتةٌ وساعةُ حائطٍ ذاتِ عقاربَ محذرةٍ . وحكمتْ على نفسي بالحبسِ حتى الانتهاءِ منْ أطروحتي ، حتى الطعامِ ، استقدمتهُ باستخدامِ تطبيقِ "طلبات " وكنتَ أستقبلهُ منْ نافذةِ مكتبي . ولمْ تمنعْ اللافتةُ أسرتي منْ دخولِ المكتبِ لكنها قللتْ منْ استباحتهمْ لي.
■■■
وفي يومٍ تناهى لسمعيٍ حوارِ بينَ البناتِ حينَ أرادتْ إحداهنَ الخروجَ للتبضعِ وسمعت اقتراحن استقدام سيارةِ أجرةٍ ، فخرجتْ منْ المكتبِ خروجَ " صدامْ " منْ الحفرةِ وادعيتُ المللَ وأخبرتهنَ أنني قاصدةٌ مجمعَ الخليجِ لشراءِ بوظةٍ، فطلبنَ صحبتي ، وفي السيارةِ أدرتْ مقطوعةَ الخريفِ " لشوبانْ " فسقطَ أنا وكاهلي منْ التعبِ كأوراقِ خريفٍ .
■■■
دخلنا متجرُ " ماتالانْ " فقاما بانتقاءِ بعضِ الملابسِ لقياسها وبينما هما في غرفتيْ القياسِ جلستْ بانتظارهنَ في رواقٍ صغيرٍ بينَ الغرفِ. كانتْ فرصتي في استراحةِ محاربٍ وإذْ ببائعةٍ أنيقةٍ منْ متجرِ "ماتالانْ" تحدقَ في، كانتْ نظراتها تجترئَ كأبوابِ مواربة تترصدُ صفرَ الاقتحامِ، فظننتُ بها الظنونُ، ثم تجمدتْ في جلستيْ فراحتْ تقتربُ وتتفحصُ وجهي، وكلما اقتربتْ هيَ ، انكمشتْ أنا ، فمزيدٌ منْ اقترابها وانكماشي حتى أوشكتْ على الهربِ ، فدسّتْ يدها في جيبها ثمَ أخرجتْ خيطًا وضعتْ طرفهُ على ثغرها والأخرَ لفتهُ بين أصبعيها السبابةِ والإبهامِ لكلتا يديها.
..
دعيني أساعدكُ : قالتْ ، لكَ وجهكَ مقمرٍ أودُ الاعتناءُ بهِ إذْ يبدو عليكَ الإرهاق ، أنا أمْ مثلكَ وأعي حجمَ مسؤولياتكَ، أغمضي جفونكَ . أغمضتْ ، فراحتْ تنتزعُ خريفَ الإهمالِ الزائدِ منْ حاجبايَ، فتحجرتْ عينايَ منْ الذهولِ لكنَ يدها كانتْ مريحةً كحريةٍ .■■■
كانَ المتجرُ يذيعُ أغنيةَ فيروزْ "عندي ثقةٌ فيكَ"، أما أنا فرحتُ أفكرُ كيفَ تسنى للغريبةِ أنْ تبادرَ لمساعدةِ الغرباءِ بينما القريبةِ ترصُ القذى في أهدابكَ لتطمئنَ أنَ العالمَ سيستقذركَ؟
كيفَ تهتمُ منْ تجهلني بينما لا تكترثُ منْ كنتَ أتبادلُ معها حمالةَ الصدرِ واقتسمَ معها المصروفَ وأسراري الورديةِ ، أولُ حيضةٍ ، أولُ قبلةٍ ، أولُ حملِ وأولَ راتبٍ ؟
لما نعيشُ بقلوبٍ تترصدُ الألمَ منْ الأغيارِ لنفاجأ بهمْ أخيارْ ؟
لأولِ مرةٍ ، شعرت أنَ هناكَ منْ هيَ أكثرُ أناقةٍ منْ الماكسيماليستا ، فالشقراءُ كانتْ تعرفُ كيفَ تعتني بنفسها ، بينما أجادتْ بائعةَ متجرِ " ماتالانْ " الاعتناءُ بالآخرِ
الشقراءُ كانتْ تحبُ أنْ تبدوَ جميلةً ، أما بائعةَ المتجرِ فكانَ يعنيها أنْ تجملَ الوجودَ
الشقراءُ كانتْ بقعةُ بهاءْ على الأرضِ أما البائعةُ فكانتْ تضاعفُ مساحاتِ الجمالِ في الكونِ.
الشقراءُ علمتني أنَ ثوبَ الرقيِ منْ نسيجِ المينك ، أما بائعةُ المتجرِ فخيطتْ ثوبَ الجمالِ منْ نسجِ المحبةِ .
الماكسيماليستا كانتْ أولَ ملجأٍ للهروبِ منْ القبحِ ، أما بائعةُ المتجرِ فكانتْ المنتهى وآخرُ ملاذٌ لذكرى جمالٍ إنسانيٍ لنْ يطويهُ كفُ الدهرِ .
رسمتْ البائعةَ الأنيقةِ حاجبي كساحلٍ هادئٍ ، فشكرتها وحينُ وضعت يدي في جيبي بادرتني
:لمْ أفعلْ ذلكَ منْ أجلِ المالِ ، وإنْ قبلتهُ ، سأحجمُ عنْ مساعدةِ أحدٍ لاحقًا، وسأتأكدُ أنكَ أساءتْ فهمي ، إنما أردتْ إزالةَ الغبارِ عنْ لوحةٍ رائعةٍ
■■■
دفعني الحرجُ للرحيلِ دونَ إخطارٍ بناتيٍ أوْ تركِ بطاقةِ الائتمانِ لهما ، وفي ممرات المجمع شاهدت صفوف طويلة من البشر تقف حيق كنا بأول يوم في الشهر و كان هدا موعد ارسال المغتربين لرحيق عرقهم هدايا للغوالي. تسمرت امام هد المشهد الأجمل من نوعه ثم عدتُ للسيارةِ حيثُ " شوبانْ " لا يزالُ يعزفُ " الخريفُ "، فساورني ضيقٌ كونيٌ نسيتُ أنْ أسأل بائعة المتجر عنْ اسمها أوْ جنسيتها ، وددتُ لوْ عرضتْ عليها الصداقةُ، فعدتْ للمتجرِ ووجدتها ، فسألتْ عنْ جنسيتها ، أجابتْ
:أنا منْ الْ "بدون
:ها ؟
:أنا منْ البدونَ
تراها تدري أنَ جنسيتها هيَ الإنسانيةُ ؟