مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. تحسين الشيخلي يكتب: سعادات صغيرة.. رحلة إلى عالم الصوت والتأمل

نشر
الأمصار

فقدان القدرة على الرؤية يعد من أكثر التحديات التي يمكن أن يواجهها الإنسان، ولكن عندما تجد نفسك مضطرًا للتعامل مع هذا الواقع الجديد، تبدأ في اكتشاف زوايا مختلفة من الحياة لم تكن قد انتبهت إليها من قبل. 

 

هذا هو ما أعيشه الآن، حيث أدركت أن فقداني لجزء كبير من بصري نتيجة مرض السكري لم يسلبني بصيرتي ،تضرر بصري خاصة العين اليمنى التي أخذت بالأنطفاء تدريجياً. على الرغم من هذا التغير الجسدي الكبير، لا زلت أملك القدرة على الفهم والتأمل والإحساس بما يدور حولي، وهو ما يمنحني القوة للتعامل مع هذا التحدي اليومي.

عندما بدأ البصر يتلاشى تدريجيًا، كنت في البداية أشعر بالرهبة. كيف لي أن أعيش دون أن أتمكن من رؤية الأشياء من حولي كما كنت أفعل من قبل؟ كيف سأتعامل مع الأمور البسيطة في حياتي اليومية؟ كانت هذه الأسئلة تلاحقني باستمرار، لكنني أدركت مع مرور الوقت أنني لست بحاجة إلى الاعتماد الكامل على حواسي الجسدية لكي أعيش حياة ذات معنى.

البصيرة هي تلك القوة الداخلية التي تمكننا من رؤية العالم بعمق أكبر من مجرد النظر. بينما ضعفت قدرتي على الرؤية الجسدية، اكتشفت أنني لا زلت أمتلك بصيرتي الروحية والعقلية. هذه البصيرة هي التي تساعدني على فهم الأشياء من حولي بطريقة تختلف عن السابق. أصبحت أكثر انتباهًا للأصوات، وأصبحت قدرتي على الاستماع والتأمل أقوى من أي وقت مضى. الصوت أصبح نافذتي إلى العالم، وأصبحت أدرك أن الأشياء ليست كما تبدو على السطح فقط، بل تحمل في طياتها معانٍ أعمق.

تغيرات كبيرة تحدث في حياة الإنسان أحيانًا دون سابق إنذار، وكثيرًا ما ترتبط هذه التغيرات بالظروف الصحية. عندما يتطلب الوضع الصحي الابتعاد عن وسائل التكنولوجيا التي اعتدنا عليها، يشعر المرء فجأة بأنه قد دخل في عالم مختلف تمامًا. هذا هو ما حدث لي عندما اضطررت للتوقف عن استخدام الشاشات ،كان ضروريًا للحفاظ على ما تبقى من صحتي.

العيش في عصرنا الرقمي يعني الاعتماد بشكل كامل على الشاشات، سواء كان ذلك للعمل أو الترفيه أو حتى التواصل مع الآخرين. كانت الشاشة ولأكثر من نصف قرن جزءًا لا يتجزأ من يومي. ولكنها اصبحت كل يومي مع ظهور الانترنيت الذي غير الكثير من عاداتي . أبدأ صباحي بتصفح الأخبار على الإنترنت، ثم أتنقل بين منصات التواصل الاجتماعي، وبين الحين والآخر أقوم بقراءة بعض المقالات أو الكتب الإلكترونية. كانت حياتي تتشكل حول هذه الأدوات، ولم أكن أتصور يومًا أن أضطر للتخلي عنها.

لكن مع تدهور حالتي الصحية، وجدت نفسي مضطرًا للبحث عن بدائل. في البداية، شعرت بالقلق. كيف سأستمر في متابعة الأخبار؟ كيف سأقرأ الكتب التي أستمتع بها؟ كيف سأتواصل مع أصدقائي وعائلتي؟ كل هذه الأسئلة دارت في ذهني وأنا أواجه هذا التحدي الجديد.

إحدى أكبر التحديات التي واجهتني هي التكيف مع حياتي اليومية. الأشياء التي كنت أفعلها دون تفكير أصبحت الآن تتطلب المزيد من الجهد والانتباه. لكن مع ذلك، لم أستسلم لهذا الواقع الجديد. بدلاً من ذلك، حاولت البحث عن طرق جديدة للتعامل مع هذه التحديات.

كان (الراديو) هو أول الحلول التي لجأت إليها. لم أكن قد استمعت إلى الراديو منذ سنوات، إذ كنت أعتمد على الإنترنت لكل شيء. لكن مع مرور الوقت، بدأت أستمتع بهذا الوسيط القديم الجديد. الراديو يقدم نوعًا مختلفًا من التجربة، حيث لا حاجة للشاشة، بل مجرد الصوت الذي يتدفق عبر الأثير. البرامج الحوارية، الموسيقى، الأخبار، كلها متاحة دون الحاجة إلى النظر. شعرت بأنني أعود إلى أوقات أبسط، حيث كان الراديو هو الوسيلة الرئيسية للحصول على المعلومات.

ثم جاء الدور على (الكتب الصوتية). كنت قد سمعت عن هذه الفكرة من قبل، لكن لم يكن لدي الوقت أو الدافع لتجربتها. لكن عندما أصبحت القراءة العادية غير ممكنة، وجدت نفسي أستمع إلى الكتب بدلاً من قراءتها. التجربة كانت مختلفة تمامًا. الكتب الصوتية تتيح لك التفاعل مع النص بطريقة مختلفة، حيث يمكن للصوت أن يضيف طبقات جديدة من الفهم والتأمل. كان من المثير الاستماع إلى الروايات والمقالات بشكل صوتي، مما جعلني أرى النصوص من زاوية جديدة تمامًا.

حالة اخرى ، لم اعد مضطراً لأن اكتب ملاحظاتي ، يكفيني ان ارددها بالصوت وتتحول الى نص ، وهذا المقال خير دليل على ذلك. 

وبالطبع، لم أكن لأستطيع البقاء على اطلاع بما يحدث في العالم دون مساعدة التقنيات الحديثة. هنا جاء دور (أليكسا)، المساعد الصوتي الذي أصبح جزءًا من حياتي اليومية. أستطيع الآن طرح الأسئلة والحصول على الأخبار بشكل سريع ومباشر، دون الحاجة إلى البحث أو تصفح الإنترنت. كانت هذه التكنولوجيا بمثابة جسر بين حياتي القديمة المعتمدة على الشاشات والحياة الجديدة التي تتطلب الابتعاد عنها.

مع مرور الوقت، بدأت ألاحظ تغييرات في نمط حياتي. الابتعاد عن الشاشات لم يكن مجرد تغيير في طريقة الحصول على المعلومات، بل أثر أيضًا على حالتي النفسية والعاطفية. في الماضي، كنت أجد نفسي مشتتًا بين العديد من الأمور في نفس الوقت، أتنقل بين تطبيقات مختلفة وأحاول متابعة كل شيء. الآن، أصبح لدي وقت أكبر للتفكير والتأمل. الاستماع إلى الراديو أو الكتب الصوتية يعطيني الفرصة للتوقف والتفكير في ما أسمعه، بدلاً من الانغماس في زخم المعلومات المتدفقة من الشاشات.

كذلك، لاحظت أنني أصبحت أكثر تواصلًا مع من حولي. عندما كنت أعتمد على الشاشات، كنت أقضي ساعات طويلة في العزلة، حتى وإن كنت متصلًا بالعالم الافتراضي. الآن، أصبحت أخصص وقتًا أكبر للتحدث مع عائلتي وأصدقائي، سواء كان ذلك عبر الهاتف أو وجهًا لوجه. هذه الروابط الحقيقية أصبحت أكثر أهمية بالنسبة لي مع تراجع التكنولوجيا في حياتي اليومية.

ربما تكون هذه التجربة قد جاءت نتيجة لظرف صحي غير مرغوب فيه، لكنها فتحت لي أبوابًا جديدة. أدركت أن التكنولوجيا، رغم أهميتها الكبيرة، ليست كل شيء. يمكننا أن نعيش حياة غنية ومليئة بالتجارب دون الحاجة إلى الاعتماد الكامل على الشاشات. الراديو والكتب الصوتية والتواصل المباشر مع الآخرين أصبحوا أدواتي الجديدة للعيش في هذا العصر الرقمي، دون أن أكون أسيرًا له.

التحدي الأكبر لم يكن فقط في كيفية التعامل مع فقدان جزءاً من القدرة على البصر، بل في كيفية الحفاظ على التفاؤل والإيجابية في مواجهة هذا التغيير الكبير. هنا تأتي البصيرة مرة أخرى لتلعب دورها. الفهم العميق لمعنى الحياة وقيمتها يتجاوز مجرد الرؤية البصرية. نحن كبشر نمتلك قدرات عقلية وروحية تمكننا من التكيف مع الظروف الصعبة. عندما نركز على الأشياء التي لا تزال بين أيدينا بدلاً من الأشياء التي فقدناها، نصبح قادرين على تجاوز التحديات والتعامل معها بإيجابية.

الأشخاص من حولي لعبوا دورًا كبيرًا في دعمي خلال هذه المرحلة. الدعم العاطفي والمعنوي كان له تأثير كبير في مساعدتي على التكيف مع هذا الوضع الجديد. تعلمت أن الاعتماد على الآخرين ليس علامة ضعف، بل هو جزء من طبيعتنا كبشر. نحن نحتاج لبعضنا البعض في الأوقات الصعبة، ومن خلال دعم الآخرين نستطيع أن نجد القوة داخل أنفسنا للتعامل مع أي تحدٍ نواجهه.

قد يكون فقدان بعضاً من البصر أمرًا صعبًا، لكنني أعتبره فرصة لإعادة اكتشاف نفسي والعالم من حولي. الأمور التي كنت أعتبرها بديهية أصبحت الآن تثير اهتمامي بشكل أكبر. أصبحت أقدر الأشياء الصغيرة في الحياة، مثل صوت الرياح أو تغريد الطيور. هذه الأصوات كانت دائمًا موجودة، لكنني لم أكن ألتفت إليها بالطريقة التي أفعل الآن. فقدان البصر ولو جزئياً أعطاني القدرة على رؤية العالم بطريقة مختلفة، بطريقة تعتمد على الأحاسيس والبصيرة الداخلية.

عندما نواجه تحديات كبيرة في حياتنا، نميل إلى التركيز على ما فقدناه. لكنني أدركت أن هذا ليس الحل. بدلاً من التركيز على ما لم يعد بإمكاني فعله، قررت التركيز على الأشياء التي ما زلت أستطيع القيام بها. الحياة مليئة بالتحديات، وكل تحدٍ هو فرصة للنمو والتعلم. العارض الصحي لم يمنعني من الاستمرار في حياتي، بل علمني كيف أعيشها بطريقة أكثر عمقًا ووعيًا.

في النهاية، قد تكون هذه التجربة قد أثرت على قدرتي الجسدية، لكنها لم تضعف قوتي الداخلية. البصيرة هي تلك القدرة التي تجعلنا نرى الأشياء بمعناها الحقيقي، وهي التي تساعدنا على التكيف مع التحديات والمضي قدمًا في حياتنا. على الرغم من كل شيء، ما زلت أحتفظ ببصيرتي، وهذه هي القوة التي ستقودني في المستقبل.