داليا الحديدي تكتب: وضعتها أنثى
بمناسبة اليوم العالمي للبنات، أذكر زيارة عائلية قمت بها مع زوجي منذ فترة لتهنئة أسرة زميله بمولودهما الجديد.. فاستقبلنا ببشاشة.
بالمقابل، حمل وجه زوجته مَسْحَة آسى راحت بررتها بالكثير من البوح لا سيّما وقد وجدتني انصت بقلبي، فقد كانت مشاعر الظلم تلتهمها من الداخل، كانت تشتعل بشكل يصعب إخماده، فافصحت مع أول لمسة للجرح وقالت الأقاويل في وصف أوجاع الغربة، الفِرَاقَ، الحمل والآم الطلق ومعانتها مع فقد طفلها الأول الذي نفق في بطنها في شهره التاسع لأن أم زوجها أصرّت على صحبتها بالمشفى وأخبرت الممرضة –بالخطأ- أنها أخذت حقنة التثبيت، لكن ما حزّ في نفسها أنها حين قررت في المرة الثانية الولادة وَسَط أهلها، ويوم أقامت مع زوجها وليمة العقيقة، زارتهم عمته، فدخلت مقتضبة، سلمت بغلظة وجلست صموتة كأن على رأسها الطير ولم تكن الزوجة تدري سببًا لتلك الخشونة في المعاملة من سيدة لم تقابلها من قبل سوى في العرس!
بعد قليل جاءتها العمّة معتذرة، مهللة، فاتحة ذراعيها ومباركة للزوجة وقالت: أعذريني يا ابنتي، سامحيني، قسم بالله حسبت أنك وضعتها أنثى، والله هسه عارفة أنه صبي ..مليون مبروك ..اعذريني ما جئتك بهدية حسبتها بنيّة، أما وأنه الولد، ثم خلعت قلادتها الذهبية من جيدها وأعطتها إياها.
سالت دموع الأم وهي تروي
: أشد ما يؤلمني أنه عادة ما أتجمد في تلك المواقف الشديدة الخِذْلان، فلم أرد، ودي لو كنت ألقيت القلادة في وجهها، فقد عاقبتني لأن الله رزقني بأنثى!
أما العبثية في الموضوع أن العمة تلك كانت عقيمة!
حين رويت تلك الواقعة على أبنائي، كنت أتوقع استيائهم من العمة ومن الزوج الذي خذل زوجته وتركها تتعسف من عائلته دون مساندتها لكنني لم أتوقع تلك الهوة الكبيرة في التفكير بيننا، حيث لا يرى أي منهم فضلًا لأباء يظهرون تسامحًا إن بشر أحدهم بأنثى.. بل ويعارضون كليًا وجهة نظري لو ندت مني إشارة لاستحسان إعراب أم عن فرحتها بالرغم من أنها وضعتها أنثى، حتى أنني أشعر كأن سعيرًا لسع وعيهم.
تقولي ابنتي: أنا على دراية بأوضاع مجتمعي، لكنك كمن تضعين النفط على الجمر بمحاولتك إقناعي أن على كل بنت أن تحمل جميلًا للأب كونه قبل بوجودها وكأنه بالرغْم أنه قدم له طعام بايت، لكنه متحمل وراضي بقضاء الله أو كأن الأبُّ ممتن حين "كرمش له" أحدهم خمسين جنيه!
أنت كمرابي يبرر منح التبجيل والإجلال مقابل فوائد التحقير.
اما ابني فقال: كأنك تقولين لي أن إحدى معايير الأبُّ الفاضل هو عدم التحرش بأبنائه .. أو أن إحدى معايير المدينة الفاضلة أن يهنئ المسلم الأقليات المسيحية بمناسبة عيد الميلاد.
إنك تحولين الفرض لفضل. تلك المعايير لا تنهض دليلًا على صلاحًا لأب بل على فساد المجتمع الذي يعامل الإبنة كأقليات أو عاهات من يتقبلها فهو مأجور، مشكور.
وثقي أمي أنه مهما شرب مجتمعي من كؤوس الخمر فلن يتوجب علي السُكر.. تلك مغالطات فرضها مجتمع فاسد وضع حدود دنيا بل شديدةالتدني للأجور وللقيم المنحرفة، فلا عجب من افراز شخصيات تعانيمن أوضاع ضحله من قلة الاستحقاق.
لقد عاشت النساء دهرًا من الهزائم التاريخية؛ فلا عجب أن تشعر بنصر مجيد لأنه تم تحريم وأدها، فقد كانت تقتل كما الحشرات والعبيد، لذا، تتفاخر بكون والدها لم يغتم بمولدها!
تلك الأفكار كانت تُقبل من أبناء لم يكن لهم اطّلاع على الفضاءالخارجي، والفكر النقدي، أما وأن أفاق الدنيا ونوافذها قد فتحت على مصراعيها فقد بات أبنائنا على دراية بمعايير الصحة النفسية الخليقة بأن تتوفر لهم .. وهب لم تتوفر، فهم –الأبناء- من لهم حقالتسامح أوعدم قَبُول بيئة غير صالحة تتكاثر فيها الأطماع المفتوحة كفروج العاهرات المثمنة، بيئة تحدد القيم الأخلاقية وتخضع القبول الاجتماعي لمدى احتمالية النفع الاقتصادي الذي يحدده نوع الجنين.
لقد تهاوت بطاركية الأمس بكل سطوتها، واليوم أنا فخورة بأن هناك من بناتنا من لم تعد تقبل بأهل غير مؤهلين للتعامل معها بشكل لائق كما لم تعد تسامح من يحاول أن يدخل عليها أنه استساغ وجودها على مضض أو دون مضض.
لا تسمحوا لأخطاء نظرة الماضي في سرقة رؤيتكم لمستقبل بنات اليوم.