مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. تحسين الشيخلي يكتب: ماذا يعني أن تكون (استاذاً) العراق نموذجاً

نشر
الأمصار

عندما كنت طالباً في الجامعة منذ عقود عديدة ، لم أكن أعرف ما هو المقصود بلقب (الأستاذ) حيث كان جدول المقررات يشير الى البعض بلقب (استاذ) واخرين (استاذ مساعد) وغيرهم يكتفي بلقب (دكتور). أتذكر أنني شعرت بالحيرة حول كيف يختلف الشخص المدرج باسم (أستاذ) عن الشخص الذي يحمل لقب (دكتور). أثناء الدردشة مع زملائي الطلاب، وجدت أنني لم أكن وحدي. كان هذا في عصر ما قبل الإنترنت او بالاحرى قبل العصر الرقمي، ولم يكن الرجوع إلى ويكيبيديا خيارًا، لذا لم يتضح الأمر إلا عندما كشفنا عن جهلنا الجماعي من خلال سؤال أحد مدرسي المقررات عن ذلك وهو الاستاذ محمد عبد الجواد استاذ الرياضيات الهندسية وهو مصري الجنسية يدرس في الجامعات العراقية، فأفهمنا ان لقب (دكتور) يشير ببساطة إلى حامل شهادة الدكتوراه، و(أستاذ) يشير إلى درجة أكاديمية محددة (الدرجة الأقدم في سلم التدرج الاكاديمي). لقد علمنا أن الأساتذة كانوا في أعلى الشجرة الأكاديمية  أو هكذا بدا الأمر في ذلك الوقت.

الآن بعد نصف قرن من تلك الفترة وكأكاديمي، أدركت منذ فترة طويلة أن طلاب اليوم ليسوا أقل جهلاً بمصطلحات الألقاب الأكاديمية مما كنت عليه قبل كل تلك السنوات حتى مع وجود الانترنيت واليوكبيديا وسهولة الحصول على المعلومة.

الدرجة العلمية الأكاديمية تعكس مستوى من الخبرة والإنجاز الأكاديمي الذي يتجاوز مجرد الحصول على شهادة دراسات عليا كالدكتوراه. فهي نتيجة سنوات من العمل المتواصل في التدريس والبحث العلمي، والتفاعل مع المجتمع الأكاديمي. يبدأ السلم الأكاديمي عادة بدرجة مدرس، وهي الخطوة الأولى التي يتخذها الأكاديمي بعد حصوله على الدكتوراه، حيث يشرع في تطوير مسيرته المهنية. بعد ذلك، يرتقي إلى درجة أستاذ مساعد، وهي مرحلة تتطلب مزيدًا من الإسهامات في التدريس والبحث.

مع تقدم الأكاديمي وإثبات جدارته عبر أبحاث علمية مميزة ومساهمات أكاديمية واضحة، يصل إلى درجة أستاذ مشارك، التي تُعد تتويجًا لمراحل متقدمة من العمل الأكاديمي. أما درجة أستاذ، فهي قمة السلم الأكاديمي وتُمنح لمن قدموا إسهامات كبيرة ومستدامة في البحث العلمي والتعليم. وهناك أيضًا درجات مرموقة مثل أستاذ متمرس، التي تُمنح لأصحاب المسيرة الطويلة والمتميزة، وأستاذ كرسي، التي ترتبط غالبًا بمناصب علمية أو بحثية مدعومة من مؤسسات أو حكومات.

هذا التدرج الأكاديمي ليس مجرد هيكل وظيفي، بل هو انعكاس لمسار طويل يتطلب التزامًا بالتدريس، إنتاج معرفة جديدة، والمساهمة في خدمة المجتمع. كل درجة تحمل في طياتها مسؤوليات وواجبات تُعزز من دور الأستاذ الجامعي كقائد أكاديمي يساهم في رسم معالم التعليم العالي وتطويره.

لطالما كان الأستاذ الجامعي عماد العملية التعليمية وركيزة البحث العلمي في أي مجتمع يطمح إلى التقدم. 

في العراق، حيث يعاني التعليم العالي من أزمات متراكمة ناجمة عن الحروب والعقوبات الاقتصادية والفساد الإداري، يصبح فهم الدور الحقيقي للأستاذ الجامعي وتحليل تطوره أمرًا بالغ الأهمية. السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، ما هو دور الأستاذ الجامعي في الجامعات العراقية؟ وكيف يمكن تعزيز مكانته بوصفه قائدًا أكاديميًا لتحقيق التغيير المنشود في بيئة تعليمية معقدة ومتحدية؟

الأستاذ الجامعي لا يُنظر إليه فقط كناقل للمعرفة، بل كقائد فكري وصانع للتغيير. هذا الدور القيادي يتجلى في عدة أبعاد تشمل التدريس، البحث العلمي، الإرشاد الطلابي، والمساهمة في تطوير سياسات الجامعات والمجتمع ككل. في الجامعات العراقية، غالبًا ما يقتصر دور الأستاذ على البعد التدريسي بسبب ضعف الإمكانات وانعدام التشجيع على البحث العلمي. ومع ذلك، فإن تحقيق مكانة الأستاذ الجامعي كقائد أكاديمي يتطلب تطوير رؤيته لذاته وفهمه لدوره في بيئة متغيرة.

السباق نحو لقب الأستاذية في العراق أصبح هاجسًا لدى الكثير من التدريسيين، حيث يسعى البعض لتحقيقه بأي وسيلة ممكنة، حتى إن كان ذلك عبر الاعتماد على بحوث مُعدة في مصانع الأوراق التي تفتقر إلى الجودة العلمية الحقيقية. هذا اللهاث نحو اللقب يُفرغ مفهوم الأستاذية من جوهرها الأصيل كمنصب أكاديمي مبني على إسهامات علمية رصينة، ليصبح مجرد عرش يُتربع عليه دون مسؤولية فعلية أو تأثير ملموس.
الوصول إلى مكانة الأستاذ الجامعي ليس مجرد لقب أكاديمي، بل هو عملية تستند إلى التميز في مجالات التدريس والبحث وخدمة المجتمع. في العراق، يعاني كثير من الأساتذة من تحديات تتعلق بضعف الموارد، وضغط التدريس المكثف، وانعدام التقدير المادي والمعنوي. ومع ذلك، هناك نماذج من الأساتذة الذين تحدوا هذه الظروف وسعوا لتحقيق إنجازات بحثية وعلمية مشهودة.
لكن، ما يعتقده الزملاء غير الأساتذة (كالموظفين الإداريين والمحاضرين غير المتفرغين) عن الأساتذة يختلف من جامعة إلى أخرى. في بعض الأحيان، يُنظر إلى الأستاذ الجامعي على أنه شخصية نخبوية معزولة عن الواقع اليومي للجامعة، بينما في حالات أخرى يُحترم كصانع تغيير وقائد للمبادرات الأكاديمية. هذه الفجوة في التصورات يمكن أن تعيق التعاون بين مختلف مكونات الجامعة، مما يؤثر سلبًا على الأداء العام.

عندما ينظر الأساتذة الجامعيون إلى أنفسهم، نجد تفاوتًا كبيرًا في تصورهم لدورهم. البعض يرى أن دوره يقتصر على التدريس وتقديم المحاضرات، بينما يعتبر البعض الآخر أن الأستاذ الجامعي مسؤول عن القيادة الأكاديمية ورفع مستوى البحث العلمي وخدمة المجتمع. في العراق، يُثقل الأساتذة عادةً بالمهام الإدارية التي تستهلك وقتهم وتحد من قدرتهم على الابتكار والتطوير.

هذه التصورات تتأثر بعدة عوامل، منها طبيعة النظام التعليمي، ودرجة استقلالية الجامعة، ومدى توفر الفرص لدعم البحث العلمي. كما أن الصورة الذاتية للأستاذ الجامعي تتأثر بالضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد.

أسس هذه التصورات ترتكز على تاريخ طويل من الممارسات والتقاليد الأكاديمية، بالإضافة إلى التأثيرات الاجتماعية والسياسية التي شكلت نظرة المجتمع للأستاذ الجامعي. في العراق، تعاني الجامعات من البيروقراطية والفساد، مما أدى إلى تآكل مكانة الأستاذ الجامعي في نظر الطلاب والمجتمع. على الرغم من ذلك، فإن الدور المتطور للأساتذة يتطلب إعادة بناء هذه التصورات من خلال تعزيز مكانة الأستاذ الجامعي كقائد أكاديمي حقيقي.
من الآثار المباشرة لهذه التصورات على الجامعات العراقية، نجد ضعف الحافز للأداء المتميز، وانخفاض الإنتاج العلمي، وتراجع ترتيب الجامعات العراقية على المستويات الإقليمية والدولية. في المقابل، يمكن لتغيير هذه التصورات أن يؤدي إلى تعزيز ثقافة الأداء والابتكار، وتحقيق تأثير إيجابي على البيئة الأكاديمية والمجتمع بأسره.

لتحقيق تطور فعلي في دور الأستاذ الجامعي داخل العراق، يجب التركيز على عدة جوانب. أولًا، توفير بيئة عمل تحفز على البحث العلمي والإبداع الأكاديمي، سواء من خلال دعم مالي للبحوث أو إنشاء شراكات مع مؤسسات دولية. ثانيًا، تحسين أوضاع الأساتذة المادية والمعنوية، بحيث يشعر الأستاذ بالتقدير الحقيقي لدوره القيادي.

ثالثًا، تعزيز التعاون بين الأساتذة والإداريين والطلاب من خلال خلق قنوات تواصل فعالة تساهم في بناء مجتمع أكاديمي متماسك. وأخيرًا، ضرورة إعادة النظر في سياسات التعليم العالي بما يضمن استقلالية الجامعات، ويسمح للأساتذة بأداء دورهم القيادي بعيدًا عن التدخلات السياسية والإدارية.
أن  دور الأستاذ الجامعي كقائد أكاديمي هو المفتاح لتحسين التعليم العالي في العراق. هذا الدور لا يتطلب فقط إصلاحًا على مستوى السياسات والمؤسسات، بل أيضًا إعادة تشكيل الثقافة الأكاديمية بما يعيد للأساتذة مكانتهم المستحقة. من هنا، يمكن للأساتذة أن يكونوا القوة الدافعة لتحقيق التغيير المنشود في التعليم والمجتمع العراقي.