رمضان في لبنان.. شهر الخير وسط الأزمات المتفاقمة

يستعد اللبنانيون لاستقبال شهر رمضان المبارك بطقوسه الروحية والاجتماعية، لكن هذا العام يبدو مختلفًا تمامًا بسبب الضغوط الاقتصادية والمعيشية التي ترهق كاهل الجميع.
ورغم كل التحديات، يبقى لشهر رمضان خصوصية تعكس مزيجًا من البهجة والإصرار على الحفاظ على العادات والتقاليد التي تميّز هذا الشهر الفضيل.
التحضيرات الرمضانية تبدأ باكرًا
في الأسواق الشعبية وأحياء المدن الكبرى في لبنان كصيدا وبيروت وطرابلس، تبدو ملامح الاستعداد لرمضان واضحة، تزيّنت الأزقة بالفوانيس الرمضانية والزينة الملونة التي تضفي أجواء من الدفء والروحانية، والمحلات التجارية بدأت بعرض المنتجات الرمضانية التي تشمل المكسرات، البهارات، المشروبات التقليدية، والحلوى الخاصة بهذا الشهر.
وشهدت الأسواق حركة نشطة نسبيًا رغم ارتفاع الأسعار، حيث يتوافد الناس لشراء ما يحتاجونه لتزيين موائد الإفطار.
وفي صيدا، إحدى أبرز المدن اللبنانية، بدت المحلات مليئة بالعروض على مستلزمات رمضان، بينما تكتظ الشوارع بعربات المكسرات والمشروبات التقليدية مثل التمر الهندي وعرق السوس والجلاب.
التحديات المالية تغيّر العادات
بالرغم من الاستعدادات الرمضانية، فإن الأزمة الاقتصادية المستمرة أثرت بشكل كبير على عادات اللبنانيين، تقول السيدة فوزية الشمعة، إنها باتت تشتري احتياجاتها اليومية فقط، حيث أصبحت الأسعار مرهقة للجميع، مشيرة إلى أن بعض العائلات تقوم بتجهيز أطعمة مثل الكبة والسمبوسك مسبقًا وتخزينها في الفريزر لتكون جاهزة خلال الشهر الكريم.
وأضافت: “رمضان هذه السنة مختلف تمامًا، الناس يريدون الفرح، لكن الغلاء والضغوط اليومية تجعل من الصعب الحفاظ على الأجواء التقليدية، نحن مقتنعون أن الأزمة ليست من صنع هذا الشعب، بل نتيجة فساد الطبقة الحاكمة التي لا تهتم بمصالح الناس”.

الأسعار تحت رحمة التجار
تشهد الأسواق اللبنانية ارتفاعًا ملحوظًا في الأسعار مع حلول شهر رمضان، وسط غياب الرقابة الفعلية على الأسواق، ويؤكد محمود حمزة، أن التجار يستغلون المواسم لرفع الأسعار دون أسباب مبررة، مشيرًا إلى أن السلع الأساسية مثل اللحوم، الأجبان، والزيوت شهدت زيادات كبيرة.
وتقول فوزية، إن اللبنانيين اعتادوا على تحمل الغلاء، لكن الوضع بات أكثر تعقيدًا هذا العام بسبب انخفاض القدرة الشرائية وارتفاع سعر الدولار، مما جعل شراء الحاجيات الأساسية تحديًا يوميًا.
ارتفاع غير مبرر للأسعار يثقل كاهل اللبنانيين
ويواجه اللبنانيون أزمة جديدة تضاف إلى قائمة الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، حيث تشهد الأسواق موجة غلاء غير مسبوقة في أسعار المواد الغذائية، لا سيما المنتجات الزراعية والخضروات.
وفي بيان شديد اللهجة، أكدت نقابة الطهاة أن هذا الارتفاع يتجاوز نسب التضخم وآليات السوق والربح المشروع، مشيرةً إلى أن السبب الرئيسي وراء الغلاء هو الفوضى وجشع بعض التجار في ظل غياب الرقابة الحكومية.
الطقس يزيد من الأزمة الزراعية
تزامن ارتفاع الأسعار مع تداعيات موجة الصقيع التي ضربت لبنان مؤخرًا بفعل العاصفة “آدم”، والتي تسببت في أضرار جسيمة للقطاع الزراعي.
وفي مناطق مثل عكار، تضررت البيوت البلاستيكية نتيجة الرياح العاتية والأمطار الغزيرة، ما أدى إلى انخفاض الإنتاج الزراعي المحلي بشكل ملحوظ.
ووفق خبير اقتصادي، فإن تأثيرات موجة الصقيع أدت إلى نقص في الكميات المتوفرة من المحاصيل الأساسية في الأسواق، مما تسبب في ارتفاع أسعار الخضروات، فعلى سبيل المثال، وصل سعر كيلو الخيار إلى 150 ألف ليرة لبنانية، بينما شهدت محاصيل أخرى مثل البندورة، الفجل، البقدونس، والخس زيادات مماثلة.
تطمينات وسط الشكوك
من جانبه، حاول رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية، هاني بحصلي، تهدئة المخاوف بشأن توفر السلع الغذائية خلال الشهر الفضيل، مؤكدًا أن الكميات المتوفرة تفوق الاحتياجات الاستهلاكية. وأضاف أن المستوردين عملوا على تنويع مصادر الاستيراد لتقديم خيارات مختلفة تناسب الجميع.
ورغم هذه التطمينات، أظهرت التقارير أن أسعار الزيوت ارتفعت عالميًا بنسبة 15% نتيجة عوامل مختلفة، وهو ما انعكس مباشرة على السوق اللبنانية التي تعاني أساسًا من تدهور القدرة الشرائية. وأشارت تقارير إلى أن بعض الشركات العالمية استغلت اقتراب شهر رمضان لرفع أسعار الجملة دفعة واحدة، مع توقعات بزيادات إضافية قريبًا، رغم انخفاض أسعار المواد الخام عالميًا.
إحصاءات تُظهر عمق الأزمة
وفقًا لجمعية حماية المستهلك، شهدت أسعار 15 نوعًا من الخضار ارتفاعًا بمعدل 7.5%، بينما ارتفعت أسعار 12 نوعًا من الفواكه بمعدل 10.7%، كما ارتفعت أسعار اللحوم بمعدل 18.8%، والألبان والأجبان بمعدل 8.2%، ولم تسلم المواد المنزلية والشخصية من الزيادات، حيث ارتفعت أسعارها بمعدل 6.6%. أما المعلّبات والزيوت والحبوب، فقد سجلت ارتفاعًا بمعدل 5.8%.
انعكاسات الغلاء على المواطنين
هذه الزيادات تأتي في وقت يعاني فيه اللبنانيون من تدهور كبير في القدرة الشرائية نتيجة انهيار العملة المحلية واستمرار الأزمة الاقتصادية. ومع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، أصبح إعداد مائدة رمضان تحديًا يوميًا لمعظم العائلات، حيث بات المواطنون يتجهون نحو تقليل استهلاكهم والبحث عن بدائل أقل تكلفة.
دعوات إلى تدخل حكومي عاجل
في ظل هذه التطورات، تتزايد الدعوات إلى الحكومة اللبنانية لتفعيل الرقابة على الأسواق وضبط الأسعار، خاصة مع اقتراب شهر رمضان الذي يمثل موسمًا استهلاكيًا رئيسيًا.
ويطالب المواطنون والنقابات بضرورة وضع حد لجشع التجار، إلى جانب اتخاذ خطوات عاجلة لدعم القطاع الزراعي وتعزيز الإنتاج المحلي لتخفيف الاعتماد على الاستيراد.
رمضان فرصة للتواصل والتضامن
رغم كل شيء، يبقى لشهر رمضان في لبنان طابعه الخاص، فهو شهر يجمع الناس على موائد الإفطار، ويعزز قيم التضامن والعطاء، وفي المناطق الشعبية، يسود روح التعاون بين الجيران، حيث يتبادلون الأطباق الرمضانية ويتقاسمون ما لديهم.
كما أن الجمعيات الخيرية والمساجد تلعب دورًا كبيرًا خلال رمضان، من خلال تنظيم موائد الإفطار الجماعي وتوزيع المساعدات الغذائية على الأسر المحتاجة، مما يخفف من أعباء الشهر الكريم على الفقراء.
فرصة لإعادة إحياء الأسواق
على الرغم من كل التحديات، يرى البعض في رمضان فرصة لإعادة الزخم إلى الأسواق اللبنانية. يقول حمزة: “رمضان ليس مجرد موسم للتجارة، بل اختبار حقيقي لقدرة اللبنانيين على التكيف مع الأزمات. هناك أمل بأن يعيد هذا الشهر الحياة إلى الأسواق، ليس فقط من ناحية المبيعات، ولكن أيضًا من خلال تعزيز الروح الاجتماعية التي تميز رمضان”.
ورغم المصاعب، يبقى رمضان في لبنان شهرًا يحمل في طياته الكثير من الأمل والبركة، حيث تتجلى فيه معاني الصبر والإيمان، وتتعزز فيه قيم العطاء ومساعدة المحتاجين، في محاولة للتغلب على الظروف القاسية بروح التضامن والتآخي.