د. عبد الحق عزوزي يكتب: «مبدأ الغموض ومجريات التاريخ»

لطالما تحدثَ الأولون والآخرون من المتبحرين في العلاقات الدولية وسوسيولوجيا الأحداث السياسية عن مبادئ ونظريات تلخص بناءً تصورياً يبنيه الفكر ليربط بين مبادئ ونتائج معينة، أو لنقل إنها تفسر ظواهر معينة من خلال نسق استنباطي، وتعمل على تحديد العلاقات السببية بين المتغيرات تكون ذات حمولة استراتيجية محددة المعالم والتوجهات، تساعد متخذي القرار على تتبع استراتيجيات معينة، وتقوي سياساتهم العمومية، ويجعلونها في منأى عن الهفوات والأخطاء. وما يجري اليوم من فرض ساكن البيت الأبيض رسوماً جمركيةً على دول العالم، وتراجعه المرة تلو الأخرى عن بعض قراراته وكونه محطَ متابعة من جميع دول العالم لمخططاته يومياً لما تحمل من ألغاز وعلامات استفهام لا متناهية، تجعلنا نقرُّ بأن البيت الأبيض يتبع اليوم استراتيجية الغموض، وهي مرحلة ستستمر طويلاً؛ كما أن هذا المبدأ ستكون له تداعيات على الأسواق الدولية، وعلى معالم النظام العالمي الجديد، وعلى نوعية الصراعات المقبلة وعلى حياة الملايين من الأفراد في العالم.
في رسالة كان قد سلمها إلى الكونغرس الأميركي في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 1823، أعلن الرئيس الأميركي جيمس مونرو عن «مبدأ مونرو»، الذي يقضي بضمان استقلالية كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي، بمعنى أنه لن يسمح بتكوين مستعمرات جديدة في الأميركتين، كما لن يسمح للمستعمرات الأميركية التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها، وكل ذلك باسم عدم التدخل وعدم الاحتلال، وقد أعطى هذا المبدأ نتائجه المرجوة.
وفي مارس (آذار) 1947، أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان عن مبدئه الذي يسعى إلى مساعدة الشعوب الحرة التي تقاوم ضد الأقليات المزودة بالسلاح أو الضغوط الخارجية، «لأن بذور الأنظمة الشمولية الديكتاتورية - حسب تعبير ترومان - تغذيها دائماً عوامل الفقر والحاجة، وتصل إلى قمة تطورها ونموها حين يموت أمل الشعب في تحقيق حياة أفضل، ويجب علينا أن نبقي على هذا الأمل حيّاً في النفوس»؛ وكان لمبدأ ترومان الفضل في نشر الوعي لدى الشعب الأميركي بضرورة قبول مسؤولياته في الدفاع عن الشعوب المستضعفة، وإظهار استعداد أميركا لمعارضة «تكتيكات المسالمة»، وإيقاف الانتصار الشيوعي المتوقع في اليونان بعد قرار الحكومة البريطانية قطع المعونة عن هذا البلد، وما كان سيترتب على ذلك من نجاح الشيوعيين في كل المنطقة.
ثم يمكن أن نستحضر «مشروع مارشال» في يونيو (حزيران) 1947، حين عيّن ترومان الجنرال جورج مارشال وزيراً لخارجيته، وأعلن عن مبدئه الهادف إلى الوقوف بجانب أوروبا ومساعدتها اقتصاديّاً، وهذا ما جعل وزير الخارجية السوفياتي الشهير فياتشيسلاف مولوتوف يقول بأن «مشروع مارشال» هو نوع من الاستعمار الجديد.
وبموجب «مشروع مارشال» أنفقت أميركا أزيد من 12 مليار دولار لدعم اقتصادات أوروبا الغربية، وكانت لهذا الدعم الأميركي نتائج ملموسة ليس على الاقتصاد فحسب، بل وحتى على الاستقرار السياسي في القارة الأوروبية العجوز.
وفي سنة 1968، أعلن الاتحاد السوفياتي البائس عن «مبدأ بريجنيف»، نسبة للزعيم ليونيد بريجنيف، وهذا المبدأ هو شبيه بمبدأ ترومان ولكن في الخط المعاكس، حيث يسعى إلى دعم كل التوجهات المعادية للمصالح الغربية والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول؛ وكان من نتائج ذلك تطوير التقارب السوفياتي - الكوبي والتدخل السوفياتي في براغ سنة 1968 وغزو أفغانستان عام 1979.
وفي سنة 1989، جسدت شهادة وفاة الحرب الباردة في مبدأ فاجأ العالم، عندما سُئل الناطق الرسمي باسم غورباتشوف عن مدى فاعلية «مبدأ بريجنيف» في ما يقع من موجات ديمقراطية في كل من هنغاريا وبولونيا، فأجاب الناطق الرسمي بأن المبدأ الذي يجب أن يطبق هو «مبدأ سناترا»، وهذا ما ولّد موجات من الديمقراطية في أوروبا الشرقية.
أما اليوم فيمكن أن نتحدث عن مبدأ الغموض عند الرئيس الأميركي دونالد ترمب في سياسته الحالية؛ وقد كان بودنا أن نسمي استراتيجيته «استراتيجية الرجل المجنون» استنساخاً لمبدأ ريتشارد نيكسون الذي طبقه في زمانه حتى تعتقد فيتنام الشمالية أنّه قادر على فعل أيّ شيء لإنهاء حرب فيتنام، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية. ولكن في حالة الرئيس ترمب، فإن القاعدة التي يطبقها هي الغموض وعدم اليقين وصعوبة التنبؤ بتصرفاته في مجالات اقتصادية ومالية وجيوسياسية تهم مستقبل دول العالم؛ فهو رجل يفهم ما يقول وما يفعل، وأنت لا يمكنك أن تتكهن بما يبطنه، ويجب أن ترتوي من كل قواعد الذكاء الاستراتيجي لتجد مكاناً لك بجوار النظام العالمي الذي يبنيه، ويجب أن تكون مسلحاً ببرودة الدم وعدم الرد السريع، وأن تفهم أن العالم تغير، وأن ما اعتدته من العمل في إطار قواعد وأعراف منظمة التجارة العالمية والدبلوماسية الكلاسيكية، كل هذا قد انتهى.
نقلًا عن صحيفة «الشرق الأوسط».