د. عبد الحق عزوزي يكتب: «الرؤية الحكيمة في مجال إصلاح الشأن الديني»

إن مسألة الإصلاح الديني في الوطن العربي والإسلامي تتطلب رؤية استراتيجية حكيمة، بمعنى أنها يجب أن تتوفر على نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويم مسبق لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن حلولاً جذرية لمشاكل البلدان والعباد؛ ومن هنا ضرورة إعادة هيكلة الشأن الديني في أوطاننا، من قبيل التفكير الاستراتيجي والدقيق في كل المؤسسات المعنية بالأمر، وضرورة مواجهة بعض الدعوات كالنزعات السلفية الجهادية بمختلف أنواعها، وضرورة الحفاظ على التوازن الروحي المتفتح الذي طبع تاريخنا على مدى أزمنة عديدة.
ونظراً لما يشكّله الدين من أهميّة تراثية وفكريّة ووجدانيّة في حياة الإنسان المسلم، فإنَّ تجديد خطابه وتأهيل الدّعاة يغدوان ضرورة، لإبراز وسطيّته واعتداله وإشراك فاعلين جدد قد يعدّون «أئمة الإنترنت»، يعملون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لدعم عمل الأئمة في المساجد ومن يحظون بالشرعية الدينية والمصداقية. كما يجب القيام بحملة للتوعية والتأطير الديني في الوسط السجني الذي يشكل حقلاً خصباً لانتشار الآيديولوجيات المتطرفة.
ولقد عانت بعض الدول العربية والإسلامية في العقود والسنين الماضية من موجات متكررة من الإرهاب الغاشم قادتها تنظيمات جهادية، والبعض منها ما زالت تعاني من هذا الخلل بحكم وجود أحزاب لا تؤمن بالمجال السياسي العام المفتوح، وتزج الدين في السياسة والسياسة في الدين؛ ولن تهدأ نفوس العقول النيرة في الوطن العربي والإسلامي حتى نقضي على مسببات نشأة هاته الفئات التي تتخذ من الدين الإسلامي جسراً تعبر به نحو أهدافها الشخصية، وتصم بفكرها الضال سماحة الإسلام ومنهجه القويم، وهذا يتطلب منا جميعاً أن نتكاتف لمنع ولادتها فهي ليست من الإسلام في شيء، بل ليست من الأديان السماوية كلها... وأقول هذا الكلام لأنه على المعلمين والمربين في مدارسهم أن يهيئوا أبناءهم الطلبة لخوض حياة تقبل الآخر؛ تحاوره وتناقشه وتجادله بالتي هي أحسن، فالمنهج المدرسي بيئة مناسبة لتعويد الطالب على التحاور، وتعويده على أن الخلاف، مهما كان، يُحَلّ بالنقاش والحوار، وتدريبه على الأسس الشرعية التي دعا إليها الدين الإسلامي في تلقي الآخر.
كما أن إعادة هيكلة الحقل الديني والاعتبار للتفكير العمومي بوصفه قاطرة لتدبير قضايا التحديث بالبلدان مسألة ملحة، وذلك يتم عن طريق مراجعة العديد من القوانين والتشريعات المنظمة في هاته المجالات، لأن تحصين الشأن الديني وتدبيره يُعدّان من الدعامات المؤسسة للهويات الوطنية، وهو ما يلزم الدول برسم استراتيجيات دينية وفق منظور شامل...
ولقد نجحت بعض الدول مثل المغرب في مأسسة الشأن الديني كتأسيس معهد الأئمة والمرشدات، وتبني مشروع طموح لتأهيل مدارس التعليم العتيق، وإحداث مجلس علمي للجالية، وإحداث المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وتمت مراعاة شرطين أساسين في اختيار أعضاء المجالس العلمية في المغرب، وهما القرب من الناس والالتزام المذهبي الوسطي المعتدل، فتعريف العالم لم يعد يقتصر على الحاصل على شهادات عليا في تخصص الدراسات الإسلامية، وإنما يعني بالدرجة الأولى الشخص الذي يحمل علماً شرعياً وسطياً.
يربط الدستور المغربي بين الطابع الإسلامي للمغرب والحرية الدينية، لدرجة أنه يعد «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية». فهي صيغة دستورية في غاية الدقة والتسامح وقبول الآخر وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك بعيداً عن التعصب... وإذا كان التسامح الديني تقليداً قديماً جداً في المملكة المغربية، وسابقاً للاستعمار وفي مصلحة الذميين، فقد تضمن مشروع دستور 1908، أي أربع سنوات قبل بداية الحماية الفرنسية في المغرب، عبارة مفادها أنه «تُحترم جميع الأديان المعروفة دون تمييز. وأتباعها لهم الحق في ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية»، ولكن بهذا الاحتياط «شريطة احترام النظام العام». وقد اختفى هذا المرجع الأخير في الدستور المغربي لسنة 2011.
إن الحديث هنا عن إصلاح الشأن الديني ومعالجة الأزمات من جذورها لا من نتائجها يجعلنا نطلب تدخلاً محموداً من الدول - خلافاً للتدخل المذموم الذي يمكن أن يتحدد في أشكاله الثلاثة: المماهاة بين الدين والدولة، التدخل الإلحاقي - الاستثنائي (للدولة اتجاه الدين) والتدخل الإقصائي النابذ، وعلى الدولة أن تنهض به ضماناً للمبدأ نفسه - وهو منع استغلال الدين في السياسة والصراع السياسي، منها هي - بصفتها دولة - ومن ذلك منع القوى السياسية في المجتمع من إتيان ذلك الاستغلال تماماً كما يمكنها أن تمنع نفسها مثلاً، من انتهاك حقوق الإنسان أو العداء على الحريات العامة، ومنع قوى المجتمع من الأمر عينه. إن تدخل الدولة في الشأن الديني في هذه الحال، تدخُّل لصالح المجتمع ولصالح الدين وليس ضدهما، وهو ما يبرر لنا تسميته التدخل المحمود.
نقلًا عن صحيفة «الشرق الأوسط».