عصام زكريا يكتب: القاهرة- غزة مونامور!
خلال الأسابيع الماضية شهدت دار عرض “زاوية” بالقاهرة عرض الفيلم الفلسطيني “غزة مونامور” تأليف وإخراج الأخوين عرب وطرزان ناصر.
أشعر بالسعادة كلما رأيت فيلما عربيًا يتم توزيعه في مصر، فللأسف لا يوجد سوق للأفلام العربية، ولا الأوروبية، ولا الأسيوية، إذ تشغل الأفلام المصرية والأمريكية ما يزيد عن 95 بالمئة من الأفلام التي توزع في مصر توزيعًا تجاريًا، لأن الجمهور المصري يفضل السينما التي يعرفها، حتى لو كانت متواضعة، عن أن يغامر بمشاهدة شيء لا يعرفه.
صحيح أن فيلم “غزة مونامور” سبق عرضه في مهرجان “القاهرة” نهاية العام الماضي، إذ باتت المهرجانات هي النافذة الأساسية لعرض الأفلام العربية والعالمية، بجانب بعض المراكز الثقافية، إلا أن مشاهدة فيلم عربي في دار عرض تجارية موضوع مختلف.
على مدار قرن تقريبا من دخول السينما البلاد العربية لم تزل هناك مشكلة كبيرة تتعلق بتوزيع الأفلام العربية في البلاد العربية. باستثناء السينما المصرية التي كانت توزع في معظم البلاد العربية، قبل أن يتقلص ذلك بشكل كبير خلال العقدين الماضيين، فإن بقية السينمات العربية ليس لديها سوق توزيع في البلاد العربية، ومن المدهش أحيانا أن نسمع عن أفلام عربية عرضت في أوروبا وأمريكا والصين، وحققت نجاحات وإيرادات كبيرة ولكنها يصعب أن تجد فرصة للتوزيع في البلاد “الشقيقة”!
حتى فيما يتعلق بـ”غزة مونامور” وغيره من الأفلام العربية النادرة التي نجحت في الوصول إلى دور العرض العامة في مصر، يجب أن أذكر أنها جميعًا عرضت في قاعة واحدة صغيرة، متخصصة في عرض الأفلام الفنية المختلفة. وهي فكرة بدأها المخرج الراحل يوسف شاهين في سينما “كريم”، ثم قام ورثته، ابنة أخته ماريان خوري ثم ابنها، باستكمال المسيرة مع سينما “أوديون” و”كريم”. ورغم أن هذه المحاولات لعرض أفلام عربية في مصر كانت ناجحة، وأذكر منها مثلًا عرض فيلمي السوري دريد لحام “الحدود” و”التقرير” في نهاية الثمانينيات التي صنعت للحام شعبية كبيرة في مصر آنذاك، إلا أنها ظلت محاولات فردية متناثرة لم تنتظم في شركة وخطة توزيع.
ظاهرة ندرة توزيع الأفلام العربية في البلاد العربية كانت موجودة أيضًا في التليفزيون، عندما كان يقتصر على القنوات المحلية التابعة لكل دولة، ولكن مع انتشار الفضائيات ثم حلول عصر المنصات بدأت هذه الظاهرة في الاختفاء تدريجيًا، وبات بإمكان جمهور كل بلد عربي أن يشاهد انتاجات من بلاد عربية أخرى.. لكن الأفلام قليلة، كما أن عدد المشتركين في المنصات لم يزل محدودًا.
يتردد دائمًا أن كثرة وصعوبة فهم اللهجات العربية هي السبب، وعادة ما تقابل اقتراحات ترجمة هذه اللهجات للغة عربية فصيحة بالسخرية، مع أنها أثبتت وجاهتها ونجحت على المنصات، ولعل انتقالها للسينما يمكن أن يشجع الموزعين على شراء حقوق عرض مزيد من الأفلام العربية. لكن مسألة اللهجات ليست مبررًا كافيًا فيما يتعلق بالبلاد المتقاربة التي يمكن فهم لغاتها بسهولة أكبر، فالشام وفلسطين والأردن ومصر تتقارب لهجاتهم، وكذلك البلاد الخليجية، وبلاد المغرب العربي.
ومن المؤكد أن تبادل عرض الأفلام يمكن أن يسهم في المزيد من التفاهم بين الجماهير العربية، ليس على مستوى فهم اللهجات فقط.
من الطريف أنه عندما يحدث أن يشاهد الجمهور أحد الأفلام العربية، خصوصًا إذا كان الفيلم مستساغًا جماهيريًا، فإن ردود الأفعال كثيرا ما تكون الإعراب عن إعجابهم بالفيلم والتساؤل عن لماذا لا تعرض الأفلام العربية في مصر؟
ينتمي فيلم “غزة مونامور” إلى هذه النوعية من الأفلام الفنية، المستساغة جماهيريا، فهو فيلم بسيط ومرح، يعرض موضوعه وقضيته بشكل ممتع وغير مباشر.
يروي الفيلم، الذي يشارك في بطولته الممثلان الفلسطينيان المخضرمان هيام عباس وسليم ضو، حول قصة حب في غزة المعاصرة بين صياد عجوز وبائعة تخطت منتصف العمر، على خلفية من الواقع السياسي الصعب الذي يعيشه الفلسطينيون بين الحصار الإسرائيلي من ناحية وتخلف وتطرف “حماس” من ناحية ثانية.
يبتعد فيلم “غزة مونامور” عن المواقف والصور النمطية التي نراها عادة في الأفلام الفلسطينية، التي تركز على رصد العنف الإسرائيلي والمعاناة الفلسطينية، ويفضل أن يقترب من الحياة اليومية البسيطة ( في أوقات توقف القتال والغارات) التي تشبه الحياة في أي مكان آخر: بشر يبحثون عن تلبية احتياجاتهم اليومية، وقلوب تتعطش للحب، وبيروقراطية موظفين ورجعيين يضيقون الخناق على المواطنين، وحكاية خيالية عن اكتشاف تمثال يوناني أثري لإله مفرط الفحولة، يثير فزع السلطة، وعواطف الصياد العجوز، ووضع عبثي كوميدي بالمجمل، لا يمكن تجاوزه إلا من خلال تهاويم الحب المتأخر.
من الجيد أن تعرض أفلام عربية في مصر، ولكن “غزة مونامور” اختيار مثالي، فهو يجمع بين الترفيه والجدية، وبين الحكاية البسيطة والموقف العميق، وفوق كل هذا مستساغ وممتع جماهيريا، وهو نموذج للأفلام العربية التي يمكن أن تشكل نواة خطة تسويق وتوزيع للسينما العربية في البلاد العربية..إذا قدر لهذا المشروع أن يوجد في يوم من الأيام!