غيث التميمي يكتب: استحقاقات تشرين
عبرت انتفاضة تشرين الخالدة عن حاجات واقعية وضرورية استشعرتها شرائح متنوعة من جماهير الشعب، تهدف الى استعادة توازن الدولة ومسارها الدستوري أمام الاختلال الرهيب الذي خلفه الحكم الدكتاتوري الدموي وحروبه العبثية والاحتلال الامريكي والانقسام الطائفي واعتماد المحاصصة ومنطق المكونات الذي أضعف سيادة القانون واستباح الدستور وشجع على الفساد الاداري والمالي المنظم والمشرعن وأضعف المنظومة العسكرية والأمنية وسلطات القضاء وأنتج جيوشاً موازيةً واقتصاداً موازياً تتحكم فيه جماعات وتنظيمات جهادية إرهابية وميليشيات مارقة على سلطة الدولة.
استحقاقات تشرين ليست نزعة متمردة لمجاميع من الشباب تدربهم وتوجههم السفارات والمنظمات الدولية كما يطيب لمنظومة السلطة توصيفها، إنما هي استحقاقات ضرورية تؤكدها الإبادة الجماعية “جينوسايد ” ضد الايزيديين وهجرة المسيحيين والمندائيين ومجزرة الصكلاوية وسبايكر وسقوط المدن بيد تنظيم داعش وغياب الشفافية في السياسات المالية وغياب الحسابات الختامية للموازنات المليارية الانفجارية ومخيمات النزوح والاحياء العشوائية والاف المغيبين قسراً والسجناء والمعتقلين على أسس طائفية على قاعدة المخبر السري وتهديم البنى التحتية الاستراتيجية مثل منشآت التصنيع المتنوعة والزراعة والتجارة والسياحة وترهّل القوة الوظيفية والأجهزة العسكرية والأمنية وقطع الطرق بالكتل الخرسانية وغياب الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والترفيهية واغتيال القطاع الخاص وتغييب الهوية الوطنية للدولة بفرض هويات فرعية دينية ومذهبية وقومية وعرقية تكرس الانقسام المجتمعي وامتهان الثقافة وانتهاك الحريات الخاصة والعامة وانتهاك حقوق الانسان وتغييب مبدأ المواطنة خصوصاً في حماية الطفولة والأمومة والأسرة والنساء وكبار السن وضحايا الإرهاب وذوي الاحتياجات الخاصة.
استحقاقات تشرين هي استحقاقات الدولة والوطن والمواطنة التي رفع ملايين العراقيات والعراقيين شعار المطالبة بها “نريد وطن”ولكن منظومة السلطة المهيمنة على الحكم ومن يقف خلفها من محاور إقليمية ودولية جميعهم قرروا عدم مواجهة هذه الاستحقاقات بمسؤولية وشجاعة، بل اختاروا اساليبهم التقليدية في الهروب للامام عن طريق القفز على جميع هذه الحقائق والوقائع مكتفين باتهام الشباب المتظاهرين واختراق الساحات بالمندسين والاتباع بالاضافة الى تضليل الرأي العام باعتماد سياسات ترقيعية تم إفراغها من محتواها بحجة الاستجابة لمطالب الشعب!
كان مطلب الانتخابات المبكرة “آلية” اقترحتها ساحات التظاهر ودعمتها المرجعية الدينية العليا في سبيل العبور نحو المستقبل عبر الطرق السلمية الدستورية ولكن قوى السلطة أفرغت هذا المطلب من محتواه القاضي بضرورة توفير بيئة انتخابية آمنة نزيهة متكافئة تتيح لجميع من تتوفر فيهم شروط المنافسة الانتخابية التسابق في إقناع الشعب الساخط المحبط بالاشتراك في اختيار البرامج الانتخابية الضامنة للتحول بالدولة من الهامش الى منطقة تعيد للشعب والدولة سيادتهم واشراك الغالبية العظمى من الشعب بتقرير المصير وتحمل المسؤولية.
ولكن للأسف تم إخراج العملية الانتخابية بطريقة تهدف إلى منح قوى السلطة الفرصة الأكبر في استعادة نفوذها مع تطعيمها بمجموعة من الشباب تعويضا عن قوى التحالف المدني الديمقراطي للتدليل على أن ضحايا تشرين وجماهيرها ممثلون في مرحلة ما بعد الانتخابات “المبكرة” بهدف استعادة شرعية منظومة السلطة وميليشياتها .
وقد ظهرت علامات الاحتضار على هذا الوليد المشوه مبكراً، ومبكرا أيضاً دقت طبول التجييش والتحشيد والتلويح بالاستقواء على الدولة والاحتكام إلى منطق القوة!
لم تفهم منظومة السلطة ولن تفهم أن الهروب إلى الامام وطمس الرؤوس في الرمل لن يغير من حقيقة أن استحقاقات تشرين هي استحقاقات الدولة وأن السياسات الترقيعية تعقد الأزمة أكثر وأكثر للدرجة التي تهدد قوى السلطة بالمواجهات العنيفة فيما بينها وستكون القوة الأكثر نفوذاً وتاثيراً هي الأكثر ضررا وجماهيرها سيكونون هم الضحايا هذه المرة.
العودة الى استحقاقات تشرين ممكنة الآن لكنها لن تكون ممكنة دوما ، لذلك يجب على جميع القوى النافذة الرجوع إلى منطق العقل والقبول بتفاهمات كبرى شجاعة تؤسس لمرحلة انتقالية ضمن جدول زمني كفيل بمعالجة أصل الازمات واستعادة الدولة بعيدا عن منطق الغلبة على قاعدة يجب أن ينتصر جميع العراقيين باستعادة سيادة العراق وضمان استقراره وازدهاره .
مالم نجعل المستقبل هو الهدف ونبتعد عن صراع الأقوياء فإن القادم سيكون سقوطاً مدوياً ندفع جميعنا ثمنه باهضاً وفي المقدمة سيكون سقوط الاقوياء.