السودان.. ما هو الموقف الأمريكي من أحداث 25 أكتوبر؟
فرضت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على المشهد السوداني بصورة مكثفة – مقارنة بما كانت عليه قبل ذلك – منذ إسقاط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير في أبريل 2019، حين دعمت الحراك الثوري وراقبت ضمن مجموعة الترويكا (تضم أمريكا وبريطانيا والنرويج) اتفاق تقاسم السلطة بين المكونين، المدني والعسكري.
رئيس السودان سابقا
كان عمر حسن أحمد البشير (1 يناير 1944)، رئيس جمهورية السودان السابق (1989 – 2019)، ورئيس حزب المؤتمر الوطني، وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري على الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، وتولى عمر البشير منصب رئيس مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني في 30 يونيو 1989، وجمع بين منصب رئيس الوزراء ومنصب رئيس الجمهورية حتى 2 مارس 2017 عندما فصل منصب رئيس الوزراء وفقا لتوصيات الحوار الوطني السوداني وعُين بكري حسن صالح رئيسًا للوزراء. وفي 26 أبريل 2010 أعيد انتخابه رئيسًا في أول “انتخابات تعددية” منذ تسلمه السلطة. وتعد فترة حكمه الأطول في تاريخ السودان الحديث، بعد احتجاجات واسعة في الشارع السوداني أعلن الجيش السوداني تولي المجلس العسكري برئاسة وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف مقاليد السلطة في 11 أبريل 2019، مزيحا البشير عن رأس السلطة.
انتقادات حكم البشير
وجهت انتقادات إلى السلطات إبان حكم البشير بدأت من الانقلاب العسكري عام 1989، وحله للحكومة المنتخبة آنذاك، واتهامات المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرات اعتقال بحقه في مارس عام 2009، ويوليو عام 2010، تضم خمس جرائم ضد الإنسانية وجريمتي حرب و3 جرائم إبادة الجماعية للإجرائات العسكرية لحكومته أو موالين لها في البلاد سواء في دارفور أو في جنوب السودان.
تعزز الحضور الأمريكي في الشأن الداخلي السوداني أكثر مع تموضع جديد لواشنطن ضمن لها متابعة خطوات إجراءات نقل الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة، مطالبة بين الحين والآخر بضرورة تفعيل المسار الديمقراطي المتفق عليه وفق الوثيقة الدستورية، وضرورة تسليم السلطة كاملة للمدنيين عبر انتخابات ديمقراطية تكون الكلمة فيها للشارع.
الموقف انتابه نوع من الضبابية نسبيًا بعد قرارات 25 أكتوبر الماضي، إذ تجنبت واشنطن وصف ما حدث بـ”الانقلاب العسكري” رغم إجماع القوى المدنية على هذا الوصف، فيما ارتأى الأمريكان مسك العصا من المنتصف، كوسيط بين الطرفين، فلا هم يتبنون سردية الانقلاب تماهيًا مع المزاج المدني، وفي الوقت ذاته يلوحون بإيقاف المساعدات، بما يفهم منه ضمنيًا عدم الموافقة على ما جرى في البلاد.
علامات استفهام كثيرة بشأن الموقف الأمريكي حيال الأزمة السودانية ومستجداتها الأخيرة، فهذا الاهتمام غير المسبوق يحمل الكثير من الدلالات التي تأتي في سياق صراع النفوذ الكبير بين الولايات المتحدة وخصومها التقليديين (روسيا والصين)، ومن جانب آخر يكشف التناقض الفج في السياسة الأمريكية بين شعارات القيم المزعومة والبرغماتية التي لا ترى إلا بعين واحدة.
أمريكا والعسكر.. عقيدة تاريخية:
تتعامل أمريكا مع الأنظمة الحاكمة في العالم وفق سياق جيوساسي لا يتغير بتغير الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، ينطلق هذا السياق من تقسيم خريطة العالم إلى قسمين، عالم متقدم، وفيه تنتصر واشنطن للقيم الديمقراطية والحريات، وآخر نامٍ تكون البوصلة فيه لمن يسيطر على السلطة، أيًا كانت هويته، عسكرية أو مدنية.
وفي الشرق الأوسط ودول العالم النامي، يميل الأمريكان لمن يحقق لهم مصالحهم، بصرف النظر عن منظومة القيم والشعارات الأخلاقية التي تغازل بها الولايات المتحدة شعوب العالم، لتجميل صورتها، بصفتها حامل لواء الحضارة الإنسانية وقيمها السامية.
حال مصر بين 2011 و2013
وكما كان الحال في مصر قبل 2011 وما بعد 2013، مرورًا بما شهده الموقف العام في سوريا خلال العامين الماضيين، وصولًا إلى التغيرات الطارئة على الموقف من النظام السعودي وقضية مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي، ارتأت واشنطن أن تتعامل مع الحالة السودانية من نفس المنطلق.. المصلحة فوق وقبل أي شيء.
تدرك أمريكا جيدًا أن استبعاد الجيش من المشهد السوداني أمرًا غاية في الصعوبة، لا سيما أن ركائز الدولة المدنية لم تنضج بالشكل الذي يؤهلها لقيادة البلد بصورة مستقلة، ورغم التصريحات الوردية التي يرددها مسؤولو الإدارة الأمريكية بشأن مدنية الدولة فإن الواقع يناقض ذلك تمامًا.
ثمة تقاربات تدفع الولايات المتحدة إلى عدم القطيعة مع المؤسسة العسكرية السودانية، الشريك الأقوى حاليًّا في ثنائية الحكم في البلاد، غير أن المستجدات التي شهدها السودان خلال الأسبوع الأخير، وبداية تشكيل مرحلة جديدة وفق تلك الأحداث، كشفت عن وجه أمريكي آخر، أكثر ميلًا للعسكر من المدنيين.. وهو ما بث الريبة في نفوس بعض المقربين من المطبخ السياسي السوداني ممن ألمحوا ضمنيًا إلى أصابع أمريكية وراء أحداث 25 من أكتوبر.
هل اخبر البرهان الامريكان بما بما ينوي القيام به قبل تنفيذه؟
إن إقدام البرهان على انقلابه بعد ساعات قليلة من المباحثات التي جرت مع المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، ذهب بالبعض إلى وجود تنسيق ما بشأن هذا التحرك الذي ما يمكن للجنرال السوداني أن يقدم عليه بمعزل عن ضوء أخضر مُنح له، إقليميًا كان أو دوليًا.
“في تقديري، أن فيلتمان أسهم بشكل ما في فتح الطريق أمام الفريق عبد الفتاح البرهان للسيطرة الكاملة على السلطة”،واحتمالية إعطاء واشنطن الضوء الأخضر للجنرالات بالقيام بهذا الانقلاب، وصلت مرحلة من التنسيق الذي من شأنه أن يقوي مستوى العلاقات بين العسكر والأمريكان وفق عدد من السياقات، أولها عدم ارتياح الإدارة الأمريكية لاتساع نفوذ ومساحة اليسار داخل حكومة عبد الله حمدوك.
أن اعتماد الحكومة السودانية المنحلة على منهجية المقاربات الرأسمالية من خلال الخضوع لأجندتي البنك وصندوق النقد الدوليين، من شأنه أن يزيد من تفاقم الوضع المعيشي للسودان بما يهدد منظومة الاستقرار المجتمعي، الأمر الذي قد يقود لاضطرابات جديدة تضع مصالح الأمريكان على المحك.. سياق آخر لدعم واشطن لانقلاب البرهان.
وفي ضوء السياقات الماضية استقر في يقين إدارة الرئيس جو بايدن أن المكون المدني بتوجهاته تلك سيهدد مخططات أمريكا بتحويل السودان إلى منصة لمقاومة النفوذ الروسي الصيني المتوغل داخل مفاصل القارة الإفريقية، مع الوضع في الاعتبار التقاربات الأيديولوجية بين يسار السودان، المشاركين في السلطة، والأجندة الشيوعية في بلدان آسيا.
سواء كانت أمريكا وراء هذا الانقلاب أم لا، فإن دخول روسيا على خط الأزمة عبر الانحياز المبكر لقرارات قيادة الجيش خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت قبل ٧ أيام لمناقشة مستجدات الوضع في السودان، ورفضها وصف ما حدث بالانقلاب، بالإضافة إلى حديث الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان عن الاتفاقية حول إنشاء القاعدة العسكرية الروسية في البحر الأحمر ما زالت سارية مع إبداء بعض الملاحظات عليها مثل رسالة واضحة أربك من خلالها حسابات الأمريكان، وعليه كان لا بد من فرض تموضعات جديدة تلبي مصالح الولايات المتحدة ولا تسمح بتمدد النفوذ الروسي، وهذا بالطبع لن يتم مع سيطرة كاملة للعسكر على المشهد، ومن ثم كان لا بد من مقاربة جديدة.
ما تريده أمريكا من السودان:
أراد الأمريكان خلط الأوراق السياسية بما يمهد لتموضع جديد للسلطة يضمن ولاءات تساعد واشنطن على تنفيذ مخططها والحفاظ على مصالحها التي ما كان لها أن تكون في ظل التشكيل الجديد، وهذا لم ولن يتم إلا عبر أحد طريقين، إما انتخابات عامة تعيد تشكيل الحكومة الحاليّة وإما انقلاب عسكري يقلب الطاولة ويعيد بلورة المشهد وفق صياغات جديدة.
يبدو أن الولايات المتحدة اختارت الحل الأسرع، فكان هذا الانقلاب، لكن في الوقت ذاته وكما تم الإشارة سابقًا فإن اكتمال نمو هذا الحراك بما يعزز سلطة العسكر ويساعد على هيمنتها على الصورة بأكملها لن يكون في صالح الأجندة الأمريكية، ومن ثم كان التدخل هنا وعبر وساطة مزعومة أو حقيقية لترتيب الأجواء نحو مرحلة جديدة تلبي مطامع العسكر من جانب وتزيح الوجوه المعترض عليها أمريكيًا من الحكم من جانب آخر.
يذكر أن قوى الحرية والتغيير، ذات الميول اليسارية وصاحبة العلاقات القوية بخصوم الأمريكان في آسيا، تشكل 67% من المجلس التشريعي للمرحلة الانتقالية طبقًا للوثيقة الدستورية وهو ما يهدد مصالح الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة مستقبلًا.
وتملك أمريكا العديد من الأدوات لهندسة منصة جديدة تكون قادرة على استقبال معادلة توازنية على المسارات كافة، تحقق مصالحها، أبرزها الضغوط الاقتصادية والسياسية، حيث التلويح بورقة العقوبات والإرهاب وفرض حالة الطوارئ، وتساعدها في استخدام تلك الأدوات بريطانيا والاتحاد الأوروبي بصفة عامة، ما يجعل تأثيرها قويًا، ومن ثم تكون رادعة لدفع عسكر السودان ومدنييه معًا للاستجابة لتلك المعادلة الجديدة.
في الجهة المقابلة ستكون هناك ضغوط على المكون المدني، بحيث يُفتح الباب – استغلالًا للمستجدات الأخيرة وتداعياتها – نحو تعددية سياسية أكبر من بوتقة التحالف الحاليّ، مع تقزيم صلاحيات قوى الحرية والتغيير قدر الإمكان، وذلك عبر منح قوى أخرى صلاحيات أكبر ربما تلبي طموحات العسكر في تكوين حاضنة سياسية قوية في مواجهة التحالف ايساري ، ويظهر ذلك من خلال الترشيحات التي تظهر بين الفينة والأخرى عن شخصيات موالية للجيش لتكون رئيس لمجلس الوزراء القادم مثل عمر دهب مندوب بعثة السودان بالامم المتحدة في عهد النظام السابق رغم تأييد الشارع السوداني المطلق لشخصية حمدوك .
كيف تتعامل الولايات المتحدة مع الوضع في السودان؟
من الواضح أن الولايات المتحدة في تعاملها مع الوضع في السودان تتبنى إستراتيجية برغماتية بحتة، منذ تأسيس مكتب إفريقيا والشرق الأوسط التابع لوزارة الخارجية الأمريكية عام 1958، رغم تأرجحها صعودًا وهبوطًا بين الحين والآخر، من أوج قمتها خلال عهد الفريق إبراهيم عبود، ومن بعده جعفر نميري، إلى أن وصلت إلى حدود توترها القصوى إبان فترة نظام المؤتمر الوطني السابق بقيادة الاخوان المسلمون ، وصولًا إلى الحضور المؤثر في المشهد الحاليّ بعد ثورة ديسمبر الشبابية.
إن مواقف الولايات المتحدة الأمريكية تثبت أن شعارات الأخلاق والقيم التي تدعيها امريكا من إدارة لأخرى، ليست إلا محاولة سياسية لجلب المزيد من الأصوات داخل صناديق الاقتراع، فيما تبقى البرغماتية التي تصل في بعض الأحيان إلى الميكافيللية الضلع الأبرز في السياسة الخارجية للبلد الذي لا يتحرك إلا حفاظًا على مصالحه أو مقاومةً لمن يهددها، يتساوى في ذلك التحالف مع المدنيين والعسكر على حد سواء.
بعد أحداث 25 أكتوبر
حالة من الضبابية تسود موقف ديون السودان، والمساعدات الأجنبية، بعد الأحداث التي شهدتها البلاد في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
شهد السودان منعطفا في المرحلة الانتقالية بإعلان القائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان حل مجلسي السيادة والوزراء واعتقال قيادات المكون المدني الذي شارك في الحكم.
وجاءت تلك الإجراءات بحسب البرهان لتصحيح مسار الثورة السودانية، فيما اعتبرتها قوى الحرية والتغيير المظلة الرئيسية للمكون المدني “انقلابا” على الوثيقة الدستورية وتعهدت بمقاومته عبر الاحتجاجات الشعبية السلمية.
بدوره، قال صندوق النقد الدولي إنه “من السابق لأوانه” معرفة ما إذا كانت الأحداث الأخيرة في السودان يمكن أن تؤثر على برنامج المساعدات الذي أطلقته المؤسسة”.
وذكّر جيري رايس المتحدث باسم الصندوق، أن الصندوق وافق في يونيو/حزيران على تقديم مساعدات هي “تسهيلات ائتمانية ممددة” للسودان بقيمة 2.47 مليار دولار، على أن توزع على 3 سنوات و3 أشهر.
ويفترض أن يسهل التمويل تنفيذ برنامج إصلاحات حكومية ضرورية لتعزيز النمو والحد من الفقر.
صرف مشروط
وأشار المتحدث خلال مؤتمر صحفي إلى أن “الصرف مشروط بمراجعة (الوضع الاقتصادي) من قبل مجلس الإدارة”، مضيفا أنه “بالنسبة للسودان، سيحدث هذا في أقرب وقت ممكن، في نهاية مارس/آذار 2022”.
وشدد على أنه “من السابق لأوانه القول ما إذا سيكون للأحداث الأخيرة تأثير” على تخفيف عبء الديون أيضا.
في مقابل إصلاحات جذرية بينها إلغاء دعم الوقود، توصل صندوق النقد الدولي إلى اتفاق لخفض ديون السودان بـ50 مليارا على مدى 3 سنوات تقريبا، أي حوالي 90% من إجمالي المبالغ المستحقة على السودان.
وأوضح جيري رايس أنها “عملية تتم على مراحل”.
وكان البنك الدولي الذي يتخذ مقرا في واشنطن، أعلن تعليق مساعداته للسودان في نفس يوم الأحداث السودان المستجدة في 25 أكتوبر/تشرين الأول.
تلويح فرنسي
من جهتها، قالت وزارة الخارجية الفرنسية الجمعة إن الأحداث في السودان “تهدد” آلية نادي باريس التي تسمح للدول الغنية بشطب ما تدين به لهذا البلد الأفريقي.
وأوضحت الوزارة في بيان أن اتفاقا “تم التوصل إليه في 15 يوليو/تموز” في إطار نادي باريس “يتعين بموجبه على كل دائن توقيع اتفاق ثنائي مع السودان”.
وأضافت بعد 5 أشهر من قرار باريس إلغاء ديون تبلغ قيمتها نحو 5 مليارات دولار مستحقة على السودان، “من الواضح أن الأحداث في 25 أكتوبر/تشرين الأول تهدد هذه الآلية”.
وتناهز ديون السودان 60 مليار دولار، نحو 40% منها لدى نادي باريس.
تعهدات
وتعهدت 20 من الدول الدائنة للسودان في يوليو/تموز شطب 14,1 مليار دولار من ديونه من أصل 23,5 مليار، وفق ما أعلن رئيس نادي باريس إيمانويل مولان، لافتا إلى إمكان شطب القسم الذي تمت إعادة جدولته على المدى البعيد.
وكانت هذه العملية بدأت في مايو خلال مؤتمر في باريس أعلن فيه الرئيس إيمانويل ماكرون إلغاء فرنسا حصتها من الدين السوداني والبالغة قيمتها نحو 5 مليارات دولار.
ووعدت دول عدة آنذاك، بينها فرنسا، بتقديم مساعدات تتخذ شكل قروض لمساعدة الخرطوم في تصفية ديونها لدى مؤسسات مثل البنك الدولي.
وذكر بيان الخارجية الجمعة بأن “فرنسا دعمت عملية الانتقال الديمقراطي في السودان منذ بداية 2019. وفي هذا الإطار، كانت شريكا موثوقا به لهذا البلد في كل مجالات التعاون. وشكلت عملية إلغاء الدين السوداني جزءا من هذا الأمر”.