مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د.عبدالحسين شعبان يكتب: صورة الأردن

نشر
الأمصار

كانت صورة الأردن حاضرة بقوّة وإشراق في مؤتمر نظّمته الجامعة الهاشمية بالزرقاء وبالتعاون مع وزارة الثقافة، وبرعاية سامية، والتأم بمناسبة مئوية الدولة الأردنية، حيث استعاد المشاركون وهم من 23 بلدًا وفي نحو 60 بحثًا ودراسة تلك المناسبة، بمراجعة نموذج التجربة الأردنية ارتباطًا بأجواء الأمل والتفاؤل، على الرغم من التحدّيات الاستثنائية التي عاشها الأردن، وكذلك وضعه الاستثنائي الجغرافي والتاريخي، بما فيه من عناد وظلم.

وكان الملك حسين تسلّم عرش المملكة لنحو 46 عامًا وترك بصمته الواضحة على مسارها وتوجّهها على خلفية الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف الحسين بن علي للتحرّر والانعتاق من الهيمنة العثمانية، حيث كان الأمير عبد الله الأول قد أعلن عن تأسيس “إمارة الشرق العربي”، ثم سُمّيت “إمارة شرق الأردن” التي نالت استقلالها في 25 أيار/ مايو 1946 وأصبح ملكاً على “المملكة الأردنية الهاشمية”، لكن اغتياله في العام 1951 في القدس وهو على درجات المسجد الأقصى، ترك أثرًا عميقًا لدى الفتى الذي سيتولّى عرش المملكة بعد سنتين من إطلاق النار على جدّه، ومثل هذا الأثر لأزمة حتى آخر يوم في حياته.

واتّسم بتوجّهين أساسيين:

أولهما – نبذ العنف بجميع أشكاله ومبرّراته وحججه وتداعياته؛ وثانيهما – رسوخ صورة القدس في وجدانه كجزء من استراتيجيته. وإلى اليوم فإن الأردن ما تزال وصيّة على الأماكن المقدّسة في القدس.

وإذا كان الملك طلال صاغ دستور المملكة، فإن الملك حسين هو بانيها منذ أن تسلّم سلطاته الدستورية كاملة بعد أن أتمّ الثامنة عشر من عمره وفق التقويم الهجري في 2 أيار/ مايو 1953.

وحدّد خطاب العرش المبادئ الأساسية التي تسير عليها المملكة والتي ستصبح بمثابة “بلاتفورم” لها مكمّلة ومتمّمة دستورها ومواثيقها. وهي: النظام رائدنا والتعاون مطلبنا والاتحاد في الصفوف رمزنا والعمل شعارنا وبناء وطن محكم الدعائم راسخ الأركان هدفنا ومساواة جميع المواطنين مبدؤنا.

يمتلك الأردن موقعًا استثنائيًا وسطيًا وهو ما جعله يواجه تحدّيات استثنائية أيضًا، فهو محاطٌ بخمسة دول، فمن الغرب فلسطين التي تحتلّها “إسرائيل” بؤرة العدوان المستديمة والترسانة العسكرية التي تغتصب حقوق أهلها وتشرّدهم، ومن الجنوب المملكة العربية السعودية، ومن الشرق العراق، ومن الشمال سورية، ويشترك الأردن مع مصر بحدود مائية في خليج العقبة.

وشهدت مصر وسوريا والعراق انقلابات عسكرية عديدة وأنظمة قومية راديكالية شمولية، في حين استمرّت المملكة الأردنية الهاشميّة تغرّد خارج السرب وسط العواصف الآيديولوجية الواحدية والإطلاقية، مختارةً طريق الاعتدال والتطوّر التدرّجي وبتوجّه أقرب إلى الليبرالية أو بعض إرهاصاتها، حسب وصفة نهاية الأربعينيات والخمسينيات.

واجه الأردن تحدّيات وامتحانات عسيرة منذ استقلاله العام 1946 ، منها حرب العام 1948 العربية – “الإسرائيلية”، كما واجه مسألة بناء الدولة وتعريب الجيش والعلاقة مع بريطانيا وإلغاء المعاهدة معها، فضلًا عن التجاذبات السياسية في مراحل عديدة من تاريخه، وخصوصًا في نهاية الخمسينيات، ثم عدوان “إسرائيل” العام 1967، إضافة إلى الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية، وغزو القوات العراقية للكويت، ثم حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت والحصار الدولي على العراق واحتلاله فيما بعد وصولًا إلى صفقة القرن في عهد الرئيس دونالد ترامب، وذلك في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني.

ومثل هذه التحدّيات الاستثنائية لم تتمكّن دول أكبر وأغنى من الأردن وأكثر سكانًا أن تصمد أمامها، لكن الأردن بحكم بُعدِ نظر قيادته وحنكته السياسية تمكّن من مواجهتها، وإن بصعوبات بالغة.

لقد تمكّن الملك حسين وهو الاستثناء في الاستثناء أن يرسم طريقًا سالكًا للأردن على الرغم من وعورة الأوضاع وقسوة الظروف ووجود أكثر من مليون لاجئ فلسطيني عاملهم الاردن معاملة الأخوة بالحقوق والواجبات، وبفضل ذلك تمكّن من تجنّب طريق المغامرة وردود الأفعال، وهو ما فتح أبوابًا أمامه للتنمية والتقدم.

ومن ينظر إلى مسيرة الأردن ويعرف إمكاناته الشحيحة والمخاطر التي تحيط به يدرك حقيقة الدور الاستثنائي الذي لعبه الملك حسين بأني المملكة، وما فتحه من أفق مستقبلي بالرغم من تعقيدات الوضع العربي والإقليمي وتجاذبات القضية الفلسطينية ومحاولات “إسرائيل” التوسعيّة وعدوانها المستمّر.

وتتجلّى استثنائية الملك حسين من خلال قدرته على استنباط الجوهري من الأشياء، وبقدر اتساع رؤيته فقد عمل بواقعية استثنائية أيضًا، وامتاز ﺑشخصيةٍ كاريزمية وتواضعٍ جم وتسامحٍ متفرّد، فخلال فترة حكمه التي قاربت نصف عمر المملكة الأردنية الهاشمية، لم ينفّذ حكم إعدام بأي سياسي معارض، وهو أوردته في بحث بُعيدَ رحيله والموسوم” الملك حسين: الحاكم والإنسان وسؤال التسامح”.

كما تمتّع الملك حسين ﺑثقافةٍ موسوعية ورؤية استشرافية عقلانية وقدرة على عقد تحالفات وتدوير زوايا، إضافة إلى إنسانية واسعة، فكان رؤوفًا وعطوفًا، وحسب نيتشه: “ما قيمة فضيلتي إن لم تجعل منّي إنسانًا عاطفيًا”.