باسم فرات يكتب: أنقذتني امرأة
في اليوم الأول من بدء العطلة الصيفية، أخذتني جدتي لأبي، إلى دُكّان صديق ابنها المقتول قبل سنوات، كنت في الثامنة من عمري، وقبلها كنت أعمل خبازًا، في فرن "خبز التموين"، وخبز التموين لمن لا يعرفه، كان رغيفه بخمسة فلوس عراقية، بينما الخبز الآخر وكان يُسمّى التجاري بعشرة فلوس للرغيف، ولقد عملت في الاثنين، لكن ما يُميّز أفران "مخابز" التموين أنها تبدأ العمل بعد منتصف الليل، وتغلق قبل أذان الظهر.
لفحتني تنانير المخابز وأنا في السابعة من عمري، وعلمتني النهوض مبكرًا، حين كان الناس صغارًا وكبارًا يغطون بنوم عميق، كنتُ أتعثر بطفولتي ويتمي وحجارة الطريق للوصول إلى المخبز، وأبدأ بالعمل بنشاط شاب عانق العشرين ربيعًا، لكن عملي الجديد الذي قادتني جدتي لأبي إليه، يختلف تمامًا، فهو كان عملًا مترفًا بالنسبة لي، حيث كان يبدأ في السابعة صباحًا؛ أي لا مقارنة بينه وبين عمل مخابز التموين، التي أغلقتها الحكومة في تلك الحقبة.
في صباح من تلك الصباحات المشؤومة التي علمتني دروسًا قاسية وأنا في أيامي المبكرة، حيث اعتدت على تنظيف المحل قبل مجيء "معلمي" واسمه "السيد محسن" ولقبه "الأشهب" إذا لم تخنّي الذاكرة، وكان أشقر فعلًا، ربما لهذا السبب جاءهم اللقب، وكان والده يرتدي العمامة، في صباح من صيف طويل مجلل بالأسى، وبعد أن أكملت كنس المحل، قررت أن أطفئ المروحة السقفية، وكانت "المنضدة" التي يعمل عليها، في بداية المحل، تقابلها مرآة أشبه بالمثلث الطويل، لم تكن مبثبتة كليًّا بالحائط، فقسمها الأعلى وهو الحاد، كان يبعد عن الحائط بمسافة تزيد على العشرة سينتمترات، مربوطة بخيط، وكانت كراسي المحل من صفائح "السمن النباتي" ذات الستة عشر لترًا.
كل يوم أقوم بالعمل نفسه، ودائمًا أحذر تلك الصفيحة القلقة، كانت الوحيدة التي لا تصلح للجلوس إلّا لطفل نحيل مثل دمعة يتيم، وكان أصدقاء "معلمي السيد محسن" يتجنبونها، في زياراتهم اليومية، مثلما كنت أتجنب الصعود عليها من أجل تشغيل المروحة السقفية أو العكس، لكن في ذلك الصباح البعيد، لا أدري ما الذي دعاني أن لا أفحص الصفيحة قبل الصعود عليها من أجل أن تلامس أصابعي زر تشغيل المروحة، وما أن اعتليت الصفيحة أنوء بطفولة جريحة، حتى اختل توازني، وإذا بالجزء الحاد من المرآة، يغرس أنيابه في يدي اليسرى، تاركًا أثـرًا منقوعًا بالدم ومرارة الذكريات، على امتداد ست عشرة غرزة.
كان الدم يسيل، وكانت عيناي تبصرانه بدهشة جافة، خطوت على عتبة المحل، والسوق مكتظ بالرجال والنساء، يتسوقون من بائعي وبائعات الخضروات والفواكه والألبان ومشتقاتها، انتبهت سيدة وفي يديها زبّيلها، كان مملوءًا وكأنها على شفا العودة إلى البيت، صرخت صرخة ما زالت ترن بأذني: "انقذوا هذا الطفل السابح بدمه" راح صراخها يعلو، بينما كان جواب الرجال: لدينا أعمالنا ووقت دوامنا الوظيفي سيبدأ قريبًا.
امرأة لا أعرفها، وكم أتمنى أن أعرفها لأنحني على رأسها أقبله، تركت زبيلها بما يحوي من لحوم وفواكه وخضروات، وأمسكتني من يدي اليمنى وأسرعت بي إلى خارج السوق مسافة أكثر من ثلاثمئة متر، وأول حوذي رأته صرخت به أن يأخذنا إلى "العيادة المركزية" ولم تكن بعيدة، حيث تبعد أقل من كيلومتر واحد، كانت تسأله بلغة الرجاء الأمومية أن يحث حصانه على الإسراع، بينما كان الدم يسرح ويمرح على امتداد براءتي؛ سلمتني لهم وذهبت، قاموا بما يلزم، ثم أخذوني بسيارة الإسعاف إلى المستشفى "الحسيني"، وهناك قبل إدخالي لغرفة العمليات، سألوني عن أبي، حينها بكيت.