عصام زكريا يكتب ..المسيرة اليومية دون تفاهة!

يعلم كل مهتم بالفنون أن حال المسرح والموسيقى والفن التشكيلي يعانون في عالمنا العربي من انخفاض متزايد في الذوق الفني والتربية الفنية، وإهمال وزارات التعليم والثقافة والاعلام، وحتى السينما والغناء، الأكثر شعبية وجاذبية، يعانيان من انخفاض مماثل في المستوى والذوق العام وانحسار منافذ الدعم الحكومية والخاصة.
للمسرح العربي، خصوصًا في مصر والشام والعراق والمغرب العربي، تاريخ عريق ومسيرة طويلة منذ القرن التاسع عشر، تحفل بالانجازات والأسماء الكبيرة، وكان لهذا المسرح، في مصر بوجه خاص، دورًا كبيرًا في نشأة وصعود وازدهار الفن السينمائي، خصوصًا أن السينما المصرية جمعت منذ بدايتها بين فنون المسرح الغنائي والكوميدي والدرامي.
وإذا كانت السينما تستطيع أن تتغلب على مشاكل دور العرض من خلال التليفزيون والمنصات وأسطوانات البلوراي والدي في دي وشاشات الكمبيوتر، فإن المسرح للأسف لا يمكنه ذلك، لأن الفكرة الأساسية وراء وجوده هي الالتحام الحي المباشر بين العمل والمشاهدين. ولذلك عانى المسرح أكثر من أي فن آخر بسبب جائحة كوفيد التي تسببت في منع الفعاليات الجماهيرية وفرضت العزلة المنزلية على معظم الناس.
ورغم أن المسرح كان يعاني، من قبل الكورونا، كما ذكرت، إلا أن عودة فتح المسارح في مصر خلال الأسابيع الأخيرة شئ مفرح للغاية، والاقبال الذي تشهده بعض العروض يبين أن فنون الأداء الحي شئ مهم جدا ولا ينبغي أن نفرط فيه، وأن أزمة كوفيد ربما أعطتها قبلة حياة جديدة، لأنها أظهرت كم نحتاج إليها الآن، ومستقبلًا، أكثر من أي وقت مضى.
من بين المسرحيات التي عرضت خلال الأسابيع الماضية وحققت نسبة مشاهدات عالية عرض “المسيرة اليومية للتفاهة” التي عرضت على مسرح الهناجر بساحة دار الأوبرا المصرية، من إخراج وإعداد طارق الدويري.
العرض الذي تم تغيير اسمه فجأة إلى “المسيرة الوهمية” فقط، دون “للتفاهة”، هو نتاج ورشة عمل على مدار شهور طويلة، انقسمت إلى ورشتين واحدة للتمثيل وأخرى للكتابة. الأولى لاختيار وتدريب عدد كبير من الممثلين الشباب، استطاع العرض بالفعل أن يكون بمثابة مشروع تدشين وتخرج لمواهبهم، والثانية لصياغة عرض مبتكر من مسرحيات الكاتب الراحل رأفت الدويري، الذي رحل منذ حوالي عامين بعد أن ترك تراثا غنيا من المسرحيات المبتكرة التي تمزج بين فنون التمثيل والأداء الشعبية وفن المسرح الغربي.
أجمل ما يتسم به عرض “المسيرة اليومية للتفاهة” هو الثراء البصري المبهر، إذ يعثر طارق الدويري على المنطقة المشتركة والتأثير المتبادل بين فني المسرح والسينما، فيستخدم كل ما لديه من تقنيات لاعطاء صورة “سينمائية” للعرض تضاف بالطبع إلى خصائص المسرح الفريدة من عمق وحضور حي وتقنيات أخرى مثل انتظار الممثلين للجمهور خارج المسرح والقيام بعرض شارع مرتجل قبل دعوة المشاهدين للدخول إلى القاعة.
يتميز العرض كذلك بثراء الأداء والحركة، إذ يحفل بالاستعراضات والتشكيلات الجماعية والموسيقى والغناء، واستخدام لكل جنبات خشبة المسرح، وخارجها أحيانًا، مع الانتقالات السريعة والمفاجئة.
هذه الحيوية المذهلة التي يتسم بها عرض “المسيرة اليومية للتفاهة” التي تخطف بصر وانتباه المشاهد، يقابلها حيوية مربكة في النص الذي يتكون من مشاهد متفرقة متباينة، لا يوجد خط سردي واضح بينها، سوى في أذهان صناع العمل. وبجانب أن هذا ضد واحدة من أقدم قواعد المسرح وأكثرها رسوخًا، وهي ضرورة وجود دراما قوية واضحة، فإن المشكلة الأكبر هي أن التجريب هنا غير متماسك ويغلب عليه الرغبة في استعراض الثقافة والمهارة ومحاولة قول كل شيء في جملة، أو مسرحية، واحدة. وهذه واحدة من مشكلات المسرح “الثقافي”، في مقابل المسرح “التجاري” الذي يتسم بخفة وتفاهة نصوصه، وأنا أتكلم بشكل عام دون تعميم. ربما يكون واحدًا من أسباب هذه المشكلة هو إدراك صناع المسرح “الثقافي” بأن جمهورهم محدود، وأن معظمهم من المثقفين، ولذلك لا يبالون بأن يكون النص بسيطا مفهوما وله حبكة درامية أو سياق درامي واضح.
عرض “المسيرة اليومية للتفاهة” يشهد على الجهد الهائل الذي بذله طارق المخرج وفريق عمله من ممثلين ومصمم ديكور ومصصم مؤثرات بصرية وموسيقى، ولكن هذا الجهد كان يحتاج إلى ترشيد لصنع عمل مترابط البنيان والعناصر، مستساغ فكريا، خصوصًا أن العرض يزيد على ساعتين دون فاصل، وهو أمر مرهق حتى بدنيا للمشاهد بسبب المقاطع الكثيرة المتقافزة في شلال بصري وصوتي لا يتوقف أو يهدأ للحظة.
المسرح أبو الفنون، والناس تحتاج إلى المسرح، والسعادة تغمرنا بعودة المسارح لفتح أبوابها، ولكن يجب الاحتفاظ ببعض القواعد والتقاليد الأساسية التي قال بها عمنا أرسطو، مع الحفاظ بالطبع على حق المبدع في التجريب والتجديد، حتى يمكن أن نشجع الجمهور على العودة أيضًا.