د. ياسر عبد العزيز يكتب: الإذاعة باقية.. وتتطور

في 13 فبراير (شباط) الحالي، احتفل العالم باليوم العالمي للإذاعة التي تدخل القرن الثاني من عمرها، بينما تحافظ على أهميتها بوصفها إحدى وسائل الإعلام «التقليدية» البارزة والمؤثرة، في وقت تواجه فيه منافسة قوية من الوسائط الجديدة التي تعتمد البث عبر شبكة «الإنترنت»، وتحظى بمليارات المستخدمين عبر العالم؛ خصوصاً بين الأجيال الأصغر سناً.
وبموازاة احتفال العالم بهذا اليوم، بدا أن الإذاعة لم تنجح فقط في الحفاظ على مكانة مُعتبرة في عالم الوسائط التقليدية والجديدة، عبر صمودها اللافت أمام تحدِّيات تقلُّب السوق الإعلامية، وتغيُّر طبائع التلقي لدى الجمهور، وبروز عصر وسائل «التواصل الاجتماعي» وازدهارها إلى درجة غيرت المعالم الجوهرية لعالم البث والتلقِّي؛ لكنها أظهرت أيضاً قابلية للتطور والتنوع، والحفاظ على حصة من عوائد الإعلانات التي مكَّنتها من الاستدامة على أسس ذات جدوى.
لقد أغلق عدد من الإذاعات أبوابه بطبيعة الحال، وأعلنت شبكات إعلامية دولية مرموقة إيقاف خدمات إذاعية، بعدما وجدت أن القطاعات الغالبة من جمهورها تنصرف إلى شبكة «الإنترنت» عند تلقِّي المحتوى؛ لكن ذلك لم يُطِح بعالم الإذاعة، ولم يقوِّض أركانه تماماً.
فما زال المشروع الإعلامي الإذاعي قادراً على أن يجد ذرائع للاستمرار، وما زالت جماعات من الجمهور مرتبطة بالبث الإذاعي، بشكل يمكن أن يُصلِّب استراتيجية للمشروعات الإذاعية ويديمها.
وقد أثار هذا الصمود اللافت الأسئلة عن الأسباب التي عززت قابلية الإذاعة للاستمرار، وعند محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة، برزت فكرة «سلطة الصوت»؛ أي الإمكانات التأثيرية للسرد الصوتي عبر الأثير، وهي الإمكانات التي ترتبط بمخيلة المستمع، وتسمح له بتحرير خياله، ليرسم المشهد المرئي استناداً إلى القدرات التأثيرية للصوت الذي يروي الحكاية.
أما عنصر الثقة، فقد أضاف إلى مميزات الإذاعة ميزة متجددة؛ إذ تشير الدراسات الموثوقة إلى أن الإذاعة -وخصوصاً في أوقات الأزمات- ظلَّت تتحلى بدرجة كبيرة نسبياً من الضبط والمصداقية في بث الأخبار تحديداً.
ورغم ذلك التركيز على الوفاء بالمعايير المهنية عند معالجة الأخبار والشؤون الجادة عبر الإذاعة، فإن نصيبها من جمهور المحتوى الثقافي والترفيهي، وخصوصاً منتجات الموسيقى، ما زال مُعتبراً.
وفي الدول التي تعرف مشاكل في بُناها التعليمية والثقافية، ما زالت الإذاعة من أقدر الوسائط على تأدية الأدوار التعليمية والتأهيلية والتنموية. ووفق ما أكدت الوكالات الأممية المعنية بتلك القضايا، ومنظمات المجتمع المدني الناشطة في مواجهة تحدياتها، فإن الإذاعة ظلَّت هي الوسيط الأكثر قابلية للانخراط في الجهود التنموية.
وفي كثير من المجتمعات، ما زالت شبكات الإذاعة التجارية قادرة على توليد العوائد، عبر توفير «طاقات تَعرُّض» كبيرة؛ ولذلك، فإن البرامج الترفيهية والمسلسلات الإذاعية ما زالت تحظى بإعلانات وعقود رعاية.
وقد أدت أزمات المرور في بعض الدول، بما استلزمته من قضاء أوقات طويلة نسبياً خلف مقود السيارة، أو غلاء سعر «الإنترنت»، وضعف شبكاتها، في مجتمعات أخرى، إلى رفد الإذاعة برصيد متجدد من المستمعين.
لكن ظهور «البودكاست» وازدهاره طرح أسئلة جديدة عن مستقبل الإذاعة، وقد كان هذا راجعاً لفكرة أن هذا الوسيط «الإنترنتي» إنما يستخدم آلية «التدوين الصوتي» نفسها، عبر السرد المسموع، كما تفعل الإذاعة تماماً؛ لكنه يفعل ذلك بتكلفة أقل، ومن دون حاجة لمحطات بث، أو تراخيص من سلطات تنظيم المجال الإعلامي.
لقد أضحى «البودكاست» وجهة جديدة لكثيرين من الراغبين في استخدام «سلطة الصوت»، وتسخير السرد المسموع لبث المحتوى الذي يحظى بطلب قطاعات من الجمهور؛ خصوصاً بما ينطوي عليه من إمكانية تحديد المستمع لنوع المحتوى الذي يرغب في سماعه، وقدرته على أن يفعل ذلك من خلال الآلة الصغيرة التي لا تفارق أيادي معظم البشر اليوم: أي الهاتف الذكي المحمول.
فإذا كان البودكاست -حسب مُنظرين وباحثين كثيرين- هو شكل متطور من الإذاعة، أو كان وسيطاً جديداً يعتمد فكرة السرد الصوتي بتقنية بث جديدة، ففي الحالتين لم تنتهِ الإذاعة؛ إذ ما زال الراديو «التقليدي» يُسمَع في أنحاء مختلفة من العالم، ويتمتع بحصة من إيرادات الإعلان التي تعني القدرة على استدامة التمويل. وعلى الجانب الآخر، فسيمكن القول إن السرد الصوتي وجد وسيطاً جديداً يستخدم نسق عمله ذاته، وهو ما يعني تجديد رسالته ودوره.
ولأسباب عديدة، فإن الإذاعة بنمط بثها «التقليدي» الحالي ما زالت تُسمَع، وتحقق العوائد التي تسمح باستمرارها، كذلك «البودكاست» الذي يعتمد فكرتها ذاتها، بينما يبث رسائله عبر «الإنترنت»، يمثل تطوراً طبيعياً لها.
- نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط