مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. انمار الدروبي يكتب: الأخطر في إقحام الدين أيديولوجيا بالسياسة هو أنه سينزع قدسيّة التعايش الاجتماعي

نشر
الأمصار

شهدت الساحة الفكرية العربية في السنوات الأخيرة معارك طاحنة بين الخطاب الديني المتشدد الذي تتبناه التنظيمات المتطرفة، وبين تيار الفكر الحر، لاسيما أن هذه المعركة الفكرية يقودها أصحاب العقول المتخشبة والفتاوى المؤدلجة، متأثرة بمعطيات العمل السياسي والمجتمعي بالمنطقة. ومع أن الصراع الفكري كانت له تجلياته على امتداد تاريخ المِنطقة العربيّة، خاصة مع بزوغ الجماعات التكفيريّة خلال القرن الماضي إلا أن الموجة الراهنة تبدو الأكثر عنفاً في التاريخ المعاصر، لأن العنف الدينيّ في الوقت الراهن أصبح يمثل استحضاراً لصراع روحيٍّ وليست مجرد تكتيكات ضمن صراع سياسيّ، وإنما تعبير إيديولوجي عن أزمة أخفاقات وعجز التيار الليبرالي في تحقيق الحد الأدنى من برنامج الحداثة والمدنية.
اتخذ التكفير عند الحركات والجماعات الإسلاميّة طابعاً سياسيّا في جوهره، وإن كان يظهر في أحيان كثيرة على أنه تكفير دينيّ، فجماعات الإسلام السياسيّ تسعى إلى السلطة الثيوقراطية وأسلمة المجتمع بغض النظر عن أسلوبها حتى وإن كان بالعنف الإرهابيّ وبشتى وسائله. وذلك لأن هذه التيارات لا تقبل الحوار، ولا تؤمن بالاختلاف ولا بالديمقراطيّة، فهي رفضت الاختلاف الفكريّ والتنوع الإيديولوجيّ والانخراط في المجتمع الحداثي والتأقلم مع كل مكونات المجتمع. لاسيما أن جماعات الإسلام السياسيّ قد وظفت الخطاب الدينيّ في الشأن السياسيّ، واستخدمت سلاح التكفير للقضاء على الخصم السياسيّ. وهنا تكمن الخطورة في الخطاب التكفيريّ لهذه الجماعات فهم يحتكرون الشرعيّتين الدينيّة والسياسيّة، وأضحى الخطاب الدينيّ لديهم وسيلة في تبرير العنف وتقسيم المجتمع على أساس عقائديّ.
يقر الخطاب التكفيريّ لدى جماعات الإسلاميّ السياسيّ بجاهلية المجتمع حسب ما جاء به أبو الأعلى المودوديّ ثم سيد قطب وَفق مبدأ (الحاكمية والجاهليّة) وأن الأمة المسلمة التي يحددها قطب هي التي تحكم فيها شريعة الله ومنهجه في كل جانب من جوانب حياتها الفردية والعامة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة، بل إن أفكار قطب قد تخطت حدود تكفير الدولة إلى تكفير الأمة.  ونلحظ أيضاً أن الخطاب التكفيريّ لسيد قطب قد استند إلى بعض الأفكار، مثل دار السلام ودار الحرب، والبيعة وتطبيق الحدود الشرعيّة، ووظفها كتبريرات لأفكاره وأيديولوجيته. وفيما يخص فكرة (الجهاد) فقد تم تحويرها في خطاب الإسلام السياسيّ، وتفسيرها على أنها قتال واغتيال، بيد أن هذا الفهم المُضلّ في معنى الجهاد إنما يقوم على أساس القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للنص الجهاديّ الأصليّ، لأنه وبِناءً على هذا النصوص التكفيريّة، أصبح قتل المسلمين وغيرهم حلالاً وكذلك استباحة أموالهم وممتلكاتهم حلال سواء كانوا مواطنين أو حكاماً.
وإذا كانت الجماعات التكفيريّة تسعى لإقامة الخلافة الإسلاميّة فإنها ترى بوجوب الخروج على النظم الحاكمة لأنها لا تحكم بالإسلام، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقتال والجهاد والعمليات العسكريّة. وأمام هذا الفكرة المتشددة في الجهاد كانت أغلب التيارات الجهاديّة تلجأ إلى العنف، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) التي استطاعت كسب الآلاف من الشباب الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ولا تربطهم قضايا قومية ولكن تجمعهم أيديولوجية دينية أو سياسيّة محددة، قدمتها لهم هذه التنظيمات على أنها هي الإسلام الحقيقيّ.

في السياق ذاته، فقد اتسم الخطاب التكفيريّ لدى جماعة الإسلام السياسيّ بشرعية استخدام العنف ضد السلطة والأفراد، وكذلك فإن هذه الجماعات لا تكتفي بالأحكام التي تدين الجماعات والأفراد بالكفر والإلحاد، وإنما خطابهم التكفيريّ شرع لاستخدام العنف والقتل بلغة ومصطلحات خاصة تناول فيها القضايا الدينيّة بأسلوب ينسجم مع فهمه لوظيفة الدين في الحياة ورؤيته تجاه الآخر بحيث أصبح  تأويلهم لمبادئ  الدين الإسلاميّ، وكما ذكرنا آنفاً حكراً لهم، ومحرماً على غيرهم، ومن وجهة نظرهم، هم المخولون بالنطق باسم الإسلام، وكذلك فهم النص الدينيّ وتفسيره.
من هنا جاء موضوع استثمار الأفكار التكفيرية لدى جماعات الإسلام السياسي والتنظير لها ومن ثم شحنها في مشاريع إيديولوجية وبلورتها في هدم الدولة. لكن يبقى تساؤل عن أهميّة تشكيل أحزاب دينيّة طائفية في مجتمعات متعايشة ومنسجمة تاريخيّا لا يتجاوز انتمائها الديني حدود التشريع المدني وطقوس المناسك والعبادات؟ عند هذه المسألة يكمن الخبث الاستعماري، في استغلال العقائد الدينية وحشرها في أيديولوجية حزبية ستحمل معها قدسيتها الراسخة في عقول المؤمنين، تلك القدسيّة لا تسمح بالنقاش أو النقد ولا تقبل أي إضافة أو اجتهاد على حساب ثوابت الدين، باختصار هي منغلقة على نفسها ولا تنسجم مع فكر الآخر. وكما ذكرنا في عنوان المقال، الأخطر في إقحام الدين أيديولوجيا بالسياسة هو أنه سينزع قدسيّة التعايش الاجتماعي فيسحق كل من يعارض أفكاره ومعتقداته الحزبية بفرض قدسيتها الدينيّة التي لا تقبل الشراكة. 
من توخي فائدة هذا الخطر لدى المستعمر وجملة مهام أخرى تم التنظير لتأسيس الأحزاب والجماعات الدينية بمختلف اتجاهاتها الطائفية، بل حتى تسليحها وتمويلها واستخدامها في حروب الوكالة. لقد حرص الاستعمار على خلق تناقضات وإحداث صراعات داخلية بين الشعوب عندما يشعر بتهديد نفوذه ومصالحه. لا يخفى على المتابع لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين أن يعلم ما هو الدور التخريبي والإجرامي الذي نفذته في مصر وكثير من البلدان الإسلامية، بدون شك إطلاقا إن تنظيم القاعدة الإرهابي هو الجناح العسكري الخاص لتنظيم الإخوان الدولي.
وفقا لما تقدم، ومن باب قطع الطريق على استغلال هذه الجماعات التكفيرية المتطفلة على استغفال عقول البشر، وللعلم تعتبر هذه الطبقة من ألد أعداء الأنبياء ولا تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم حفاظا على مصالحها ومكتسباتها من الدين. حيث لم نسمع بنبيّ يناقض نبيّ آخر ويدحض نبوّة من سبقه، جميع الأنبياء أتت نبوّتهم عن مصدر واحد هو الله.
ويرى الباحثون أن اﻟﺤﻞ لهذه اﻟﻤﺸﻜﻠﺔ هو، في الدور المهم والأساسيّ ﻟﻠﻤﺆﺳﺴﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ في ﺗﻮﺻﻴﻞ اﻟﻔﻬﻢ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻟﻠﺪﻳﻦ ﺳﻮاء في اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ أو ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إلقاء المحاضرات والندوات ﺑﺎﻟﺠﺎﻣﻌﺎت واﻟﻤﺪارس، ووﺿﻊ رقابة ﻣﻦ اﻟﻤﺆﺳﺴﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ على اﻟﻘﻨﻮات اﻟﻔﻀﺎﺋﻴﺔ، وذﻟﻚ لكثرة إطلاق الفتاوى الدينيّة ﻣﻦ غير المتخصصين ﻣﻊ ﺗﻄﻮﻳﺮ اﻟﻤﻨﺎﻫﺞ اﻟﺪراﺳﻴﺔ في اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﻤﺪارس، ووﺿﻊ ﻣﺎدة ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ الإسلاميّة ﻛﻤﺎدة ﻋﺎﻣﺔ في اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺠﺎﻣﻌﻲّ.