تداعيات قرارات ترامب على تماسك حلف الناتو

يواصل ترامب انتقادة بشدة للدول الأعضاء في الناتو، خاصة ألمانيا، بسبب عدم إنفاقها 2% من ناتجها المحلي على الدفاع، وهو الحد الأدنى المطلوب وفق اتفاقات الحلف.
وقد هدد بتقليص التزام الولايات المتحدة بالحلف إذا لم تزد الدول الأوروبية إنفاقها الدفاعي، ما خلق توترات داخل الحلف.
وحيث أن المادة 5 تنص على أن أي هجوم على عضو في الحلف يعتبر هجومًا على جميع الأعضاء.

وقد ألمح ترامب إلى أن الولايات المتحدة قد لا تلتزم بهذه المادة إذا لم تقم الدول الأخرى "بدفع مستحقاتها"، ما أثار مخاوف حول مصداقية التزام أمريكا بالدفاع المشترك.
تتجه أنظار العالم إلى ألمانيا التي استضافت المؤتمر الأمني السنوي الأهم بميونخ، في ظل انتخابات مصيرية ارتفعت فيها حظوظ أقصى اليمين بدعم من إدارة أمريكية لم يخفِ أركانها تأييدهم لحزب البديل من أجل ألمانيا، الذي حل ثانيًا في انتخابات، 23 فبراير 2025، في وقت يترقب فيه الحلفاء الأوروبيون ارتدادات التقارب بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، على أمن القارة الأوروبية، والحاجة للاعتماد على النفس في مواجهة انسحاب بعض القوات الأمريكية وسيناريوهات أي هجوم روسي على الأراضي الأوروبية.

الانتقادات اللاذعة التي أطلقها نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس،
وفي ظل الانتقادات اللاذعة التي أطلقها نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، تجاه الديمقراطيات الأوروبية، خلال مشاركته بمؤتمر ميونخ للأمن، 14 فبراير 2025، فضلًا عن دعوة إدارة ترامب لأوروبا بتحمل المزيد من المسؤولية عن أمن القارة العجوز، بينما تتولى الولايات المتحدة حلحلة الأزمات حول العالم.
وألقت أجواء سياسة ترامب عبر التفاوض المباشر مع روسيا حول استعادة العلاقات الثنائية وبدأت المفاوضات بشأن إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، بظلالها على القوى الأوروبية التي باتت تطالب بضمانات أمنية في تبدل للمواقف مع موسكو، التي أطلقت شرارة الحرب بعد رفض مطالبها بتقديم ضمانات أمنية أمريكية، حول وقف تمدد حلف الناتو والتعهد بعدم ضم أوكرانيا مستقبلًا للتحالف العسكري الغربي.
ارتبطت تحركات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تجاه أوروبا منذ عودته للبيت الأبيض، 20 يناير 2025، بالرغبة في صناعة السلام العالمي وتحييد الولايات المتحدة عن الصراعات الدولية، خاصة تلك الصراعات الممتدة، التي لا تحمل مصالح اقتصادية وتجارية مباشرة لواشنطن، وفي مقدمتها الصراع الروسي الأوكراني.
أحدثت الحرب الروسية الأوكرانية تغييرات بالغة في الساحة السياسية الأوروبية وأدت لبروز أحزاب أقصى اليمين في العديد من العواصم الرئيسية، ضمن الائتلافات الحكومية أو الأزان البرلمانية على المستويين الوطني والأوروبي، نتيجة لزيادة الأعباء الاقتصادية وتصاعد الخطاب المناهض للهجرة بالتوازي مع نجاعة أدوات الإكراه الاقتصادي في تغيير الخريطة السياسية الداخلية.
وجاءت رسائل أركان الإدارة الأمريكية الحالية لأوروبا ونخبة يمين ويسار الوسط نتيجة لحالة العزلة المفروضة على أحزاب أقصى اليمين لتجنب إشراكهم في التحالفات السياسية والانتخابية، وهو ما برز في السياسة الألمانية عبر انتقادات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، لزعيم حزبها الاتحاد المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس، في تحالفه مع حزب البديل من أجل ألمانيا، لتمرير مشروع قانون حول تشديد الهجرة، 29 يناير الماضي، وهو ما أدى لإعلان ميرتس عزمه تشكيل حكومة ائتلافية مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي حل ثالثًا في انتخابات 23 فبراير 2025، بنسبة 16.4% من الأصوات وتجنب إشراك حزب "البديل" الذي جاء في المرتبة الثانية بنسبة 20.8%.

تقاسم الأعباء العسكرية
تشمل رسائل الإدارة الأمريكية في هذا الصدد لروسيا والحلفاء الأوروبيين إلى رغبة ترامب في تجنب صراع عالمي جديد بتقليص الإنفاق الدفاعي أولًا وحث القوى الأوروبية على تحمل تكاليف حماية أمن القارة وتقديم الضمانات الأمنية لأوكرانيا. وثانيًا تشير تقديرات رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي جوزيبي كافو دراجوني.
إلى أن عدد القوات الأمريكية في أوروبا يتجاوز 100 ألف عنصر تشمل العديد من قوات قيادة الجيش الأمريكي في أوروبا وقوامها نحو 65 ألفًا إلى جانب القوات الإضافية، التي استقدمتها إدارة بايدن في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، بالتوازي مع خطط إدارة ترامب لتوفير 50 مليار دولار من ميزانية الدفاع لدعم أولويات أخرى، مثل حماية الداخل الأمريكي عبر بناء نموذج دفاع جوي متعدد الطبقات لطالما روج له الرئيس الأمريكي على غرار منظومات الدفاع الجوي والصاروخي الإسرائيلية، منها "القبة الحديدة" وتعزيز القدرات البحرية لمواجهة التطور المستمر لبحرية جيش التحرير الشعبي الصيني.
إنهاء الحرب في أوكرانيا وتسوية النزاع مع روسيا
ومن شأن إنهاء الحرب في أوكرانيا وتسوية النزاع مع روسيا أن يقلص عدد القوات بنحو 20 ألف مقاتل على الأقل، حسب تقديرات مسؤولين أوروبيين، وهو ما تسعى دول الحلف الأوروبية لتعويضه بنشر فيلق متعدد الجنسيات يتراوح عدده بين 20 و45 ألفًا، في ضوء خطط الحلف لمواجهة النقص الناجم عن تقليص القوات الأمريكية، حسب موقع بوليتيكو.
ويصاحب ذلك رسائل أمريكية لافتة ومقلقة للحلفاء الأوروبيين، بالتزامن مع إعداد الحلف تحديثًا لخطط الإنفاق الدفاعي ولتعزيز إعادة انتشار القوات في مواجهة أي هجوم روسي محتمل، تمهيدًا لإقراره في قمة لاهاي، خلال الصيف المقبل، بما يشمل نشر 100 ألف جندي، خلال 10 أيام وحشد 500 ألف، 6 أشهر.
وعلى الرغم من الدعوات المستمرة منذ قمة حلف الناتو في ويلز 2014، لزيادة الإنفاق الدفاعي للحلفاء إلا أن عددًا قليلًا من دول الحلف التزم بالمعيار السابق للحلف المتمثل في إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع وتخصيص القسم الأكبر من تلك المخصصات للمشتريات الدفاعية. وتسببت الحرب الروسية الأوكرانية في زيادة الإنفاق الدفاعي لدول الاتحاد الأوروبي بنسبة 30%، في الفترة من 2021 إلى 2024 لتبلغ إجمالًا نحو 341 مليار دولار تعادل نحو 1.9% فقط من الناتج الإجمالي، حسب وول ستريت جورنال
ورغم التطمينات الأمريكية من إمكانية انضمام أوروبا في المفاوضات، حول إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في مرحلة لاحقة، إلا أن الذاكرة الأوروبية تعتبر التوجه الأمريكي "استرضاءً" لروسيا وتستدعي سيناريو 1938، حينما أقرت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بمعاهدة ميونخ على منح إقليم السوديت بتشيكوسلوفاكيا لألمانيا النازية مقابل تجنب الصراع، لكن طموح هتلر بالتوسع أدى بالنهاية لنشوب الحرب العالمية الثانية.

المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب، والروسي
ومنذ المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين، 12 فبراير 2025، تقود فرنسا تحركًا أوروبيًا محتملًا لضمان الأمن في أوكرانيا عبر نشر قوات أوروبية في الأراضي الأوكرانية، بعيدًا عن خطوط المواجهة ودون مشاركة القوات الأمريكية، باعتبار أوروبا شريكًا قويًا للولايات المتحدة تؤمن بمبدأ ترامب "السلام من خلال القوة"، وهو ما يعزز فرص رؤية الرئيس إيمانويل ماكرون، لأمن أوروبا وهو ما يشهد معارضة بعض القوى الأوروبية، التي تسعى لضمانة أمريكية لأمن أوروبا وعلى رأسها الحفاظ على المظلة النووية الأمريكية وعدم الاكتفاء بقدرات باريس ولندن.

التأثير على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي
سياسات ترامب أثرت على العلاقة بين الناتو والاتحاد الأوروبي، حيث شجعت بعض الدول الأوروبية على تعزيز القدرات الدفاعية المستقلة عن الناتو، مثل مشروع "التعاون الهيكلي الدائم" (PESCO).
على الرغم من هذه التوترات، لم ينهار الناتو، بل زادت بعض الدول الأعضاء إنفاقها الدفاعي.
وفي وقت سابق حاولت إدارة بايدن إعادة بناء الثقة مع الحلفاء، لكن سياسات ترامب تركت أثرًا طويل الأمد على العلاقة الأمريكية-الأوروبية.