داليا الحديدي تكتب: لام شمسية.. ذنوب خفية

تابعت المسلسل الأهم في الدراما العربية لهذا العام "لام شمسية" والذي يتناول جرائم "البيدوفيليا"، وفي هذا المقال نلقي الضوء لنتوغل في فهم الأسباب التي تدفع بعض الأهالي لتكذيب الابن الذي تعرض للتحرش.
فتصديق الوالدين لحقيقة تعرض ابنهما لتلك الجريمة البشعة تعد اعترافًا ضمنيًا منهما بإهمالهما رعاية الصغير بتركه في أيد غير أمينة ما يطعن في أهليتهما لحمل لقب "أهل" ما قد يسبب لهما حرج بالغ في مواجهة المجتمع.
الوضع يتعقد أكثر لو كان المغتصب من قرابات أو اصهار الأم التي طالما روجت لأفضلية أهلها. فكيف ستجرؤ على مصارحة زوجها أن النيران التي أشعلت شرف الصغير كانت نيران أهلية، والعكس صحيح لو كان المتحرش من قرابات العصب.
وقد نعزو إنكار الجريمة لتجنب الوالدين محاسبة أنفسهما لا سيما أن الأسر العربية تبالغ في الترويج لكونها تفني حياتها في سبيل الأبناء، ما يصعب عملية الاعتراف بالتقصير، فيؤثرون تكذيب الابن باعتباره الحلقة الأضعف التي يسهل تزييف وعيها أو إدخال التراهات على إدراكه، فهو "الغرّير" الذي لا يفرق بين تمر أو جمر، وبالتالي، فدفن جسم الجريمة يعد أهين من إنقاذ الجثة لأنهم في قرارة أنفسهما يشعران بأنهم ضالعان بسهم في شرف ابنهما.
الآباء لا يجرؤن على طرح أسئلة من نوعية أين كنا؟ وكيف لم ينتبهوا للخطر الداخلي، فيتدافعون بإلقاء اتهامات التقصير لعجزهم عن مواجهة ذواتهم خشية الاعتراف أنه كان حري بهم تخصيص وقت وجهد أكبر مع الأبناء عوضًا عن اعتبار التربية مهمة نسوية بحتة. وحين يهاجمهم الليل، تضج مضاجعهم، ويعترفون أنهم أهدروا الساعات مع هواتفهم، أصدقائهم، معارفهم أو أمزجتهم. وقد تجد الأم صعوبة في دحض ما روجت له من أنها "مسحولة" مع التمرينات، الدروس وأعمال المنزل لأنها تأكدت أن ما سبق ذكره يندرج تحت بند المهام لا التربية أو الرعاية، ومع كل مرة تغسل فيها الأغطية المبتلة، تلمس عجزاً لم تسده حين لم تنتبه كما لم تنبه أبناءها من غول التحرشات ولم تخطرهم بكيفية التصرف في تلك المواقف ولم تطمئنهم بأنه لا لوم عليهم ولا هم يحزنون.
يبدو أن الإنكار ولفلفة الموضوع أو التكتم خيارًا أسهل، بل قد يعتذرون للمغتصب كما في "لام شمسية" لتجنب اللجوء إلى الطب الشرعي خشية اصطدامهم بحقيقة قصور إدراكهم وخشية الشعور بالصغار أمام أبنائهم.. فعدم اللجوء للطب الشرعي يعني ان الامور لم تحسم بعد وانهما في ظل البين بين حيث الاحتمالية طوق نجاة.
المؤسف أنهم قد يعنفون الضحية حال توجيه اتهام للمعتدي. هنالك يقرأ الطفل بالتشكيل علامات التحذير من البوح المرسومة على وجوه عائلته فيغرق في مشاعر الاضطراب والتخبط كونه أدرك بالأفعال-لا الأقوال- مكانته الدونية لدى أهله، فتبدأ سلسلة انهيار تقديره لذاته ما يجعله يعاني "متلازمة ستوكهولم" والتي من خلالها لا يجد مفرًا من مهادنة المتحرش لحماية نفسه من صدمة أعتى، فقد فهم أنه أضعف من معاقبته، فتضامن مع الخصم القوي ضد نفسه ليرسل رسالة مفادها أنت عملاق وأنا ضعيف فلترأف بي.
إن متلازمة ستوكهولم توحي بأن الضحية تتعاطف مع الخصم في حين أنها تسعى للتكيف معه بإقناع الجاني بأن لا حاجة إليه لاستخدام السوط فهو خاضع وخانع دونما حاجة للقهر.. "ستوكهولم" تستخدم للمسايرة من أجل تحييد الخصم لكي لا يجتهد في الإيذاء.
🔴🔴🔴
عصارة القول، يتستر الأهل على المجرم لأن صحة الأبناء النفسية والجسدية أهين من تعرض سمعة العائلة للخطر. لذلك يؤثرون التلاعب أو تزييف وعي الضحية الصغيرة كما يغضون الطرف عن تشتت الطفل، عن معاناته مع التبول اللا إرادي، مع العنف أو الانطوائية. وكلما كانت قرابة المتحرش من الضحية قرابة مقدسة ضاعت فرصة إسعاف الطفل أو حمايته لصعوبة مواجهة محيط العائلة بهذا الأمر، فالآباء يفضلون التستر على المجرم للإبقاء على صورة الجد أو الجدة منزهة من الشوائب إنقاذًا لسمعة العائلة، فيغضون الطرف عن الجرم وكأن شيئا لم يكن ويتعاطون مع معاناة الابن بنوع نادر من الاستهبال!
🔴🔴🔴
وفي هذا الصدد أرى حتمية الإبلاغ عن حضانة "باراديس" بالمعادي وحضانة "بنت السلطان" بشبرا، كورنيش النيل، فقد اكتفت مديرة الحضانة بطرد "موظف أمن" تحرش بطفلة عن طريق كشفه لعضوه الذكري أمامها!
مديرة الحضانة لم تبلغ الشرطة عن الجريمة حمايًة لسمعة المكان، أما والدة الطفلة، فرفضت أيضا الإبلاغ خشية تعرضها للوم زوجها "ضابط شرطة" ما سيعرضها لفقدان وظيفتها حال طالبها الزوج بالتفرغ لرعاية ابنتهما.
تكررت الجريمة مع رضيعة تعرضت للتحرش من مربية بالحضانة، فلم يتم ابلاغ الأهل بالواقعة واكتفت مديرة الحضانة بطرد المربية المتحرشة دون إبلاغ الشرطة بجريمة العبث بأعضاء الرضيعة!
🔴🔴🔴
تواصلت مع مديرة الحضانة هاتفيًا وطالبتها مرارًا بالإبلاغ كي لا يكرر موظف الأمن جريمته مع أطفال آخرين كما طالبتها بالاستقالة من عملها كونها أضعف من اتخاذ موقف يحمي أمن الأطفال وصحتهم النفسية وشرفهم لكنها ماطلت علمًا بأنها تحظى باحترام وتقدير من قبل أولياء الأمور لأنها بالفعل تقوم بجهود كبيرة لا غبار عليها سوى موقفها المحايد الصموت بإزاء جرائم التحرش بالأطفال واكتفائها بطردهم دون إبلاغ الشرطة للحفاظ على مصالحها المادية، سمعتها وسمعة عملها ما يجعل المجرم يكرر جرائمه بطمأنينة مع ضحايا آخرين.
🔴🔴🔴
فمديرة الحضانة مقتنعة أنها ليست ضالعة في الجريمة كونها ليست المتحرشة ولاعتقادها أن التستر لا يندرج تحت بند الجرائم وأن التخلص من المجرم كاف، ولا داعي للتصعيد بابلاغ الشرطة!
أعتقد أن الكثير من أفراد مجتمعنا يلتبس عليهم الفرق بين الستر والتستر على الجرائم ولا يدركون خطورة الحياد كموقف انحيازي بالسلب مع المجرم بالسكوت على شناعاته، ما يُرخص للمزيد من الجرائم.
ولكوني مغتربة، بحثت طويلا حتى ساعدني الصحفي الكبير رامي الجبالي فسهل لي التواصل هاتفيًا مع مدير مركز نجدة الطفل في مصر وقد أبلغته بالواقعتين فتواصل مشكورًا مع مديرة الحضانة في القاهرة لتحذيرها من تكرار عملية التستر، لكن –للأسف- لا يوجد دليل يدين موظف الأمن أو مديرة الحضانة لأن أهل الطفلة امتنعوا عن الابلاغ.
So, case closed
لذا – ورغم الحرج البالغ- اضطررت للإبلاغ العلني عبر منصات التواصل لأنني على يقين أن شرف الأطفال في تلك الحضانة ليس في مأمن.
لقد وضعت مشاعري كابنة في مأزق مع قناعاتي كإنسانة ما اضطرني إلى الشهادة من أجل التحذير.
"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أأَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ"
سورة النساء آية 135
مديرة الحضانة تولى رعاية كبيرة بالأطفال، لكن حين توضع مصالح العمل وسمعتها في كفة فيما أمن ونفسية الأطفال في كفة أخرى، ترجح مصلحة العمل، السمعة والمادة.
فالهلع من تكبد الخسائر يحول المنصوب عليه إلى نصّاب محايد أو معتد سلبي، صامت على جرائم الآخرين.
وللأسف الكثير من الناس تتعامل بأقصى درجات التكتم على جرائم التحرش خصوصًا تلك التي لا تصل للاغتصاب كونهم يعتبرون هتك العرض "موضوع بسيط" لا يرقى لخطورة الاغتصاب الكامل ما يعرض الأطفال لمعاناة نفسية مروعة لكن غير مرئية ك"اللام الشمسية".
🔴🔴🔴
تتنازعني المشاعر كوني أقوم بالإبلاغ ضد والدتي لكني لن أقف موقف المحايد لأن الحياد ينصف الظالم بصمته.
غدًا يحتفل العرب بعيد الأم، أما أنا فاحتفل بالأم التي تدافع عن شرف الصغار ولا احتفال لمن تعرض صحتهم النفسية والجسدية للدمار.
لا تستوي من دافعت عن شرف الأطفال بمن تسترت خشية أن يمنعها زوجها من العمل أو أن تضار مصالحها.
إن والدة الطفلة التي تُحُرِّش بها ووالدتي يشاركان يوميًا في الجهاد الإلكتروني بنشر منشورات تلعن إسرائيل وتساند فلسطين وتدعو للتبرع للمساكين، لكن صمتهم على الجرائم مدوي، وسلبيتهم لا تطاق علمًا بأن الحياد من أسلحة الإجرام، فالمحايد أخس من المُجرم، يداه مغموستان في روح الطفل الضحية، كونه يؤسس للظالم ويقوي شوكته بالتغاضي عن جرمه، ثم أنه لن يخسر الضحية التي تَعشى عن رؤية موقفه الرمادي والأدهى، أنه يتكسب من المجرم، لسكوته على جرائمه.
إن لم يستطع القانون إثبات واقعة التحرش، إن عجزت نجدة الطفل عن وقف مديرة الحضانة، فواجبي الإبلاغ لتحذير أولياء الأمور من إيداع أطفالهم في مكان يدار من قبل سيدة يوحي مظهرها الديني بأعلى مراتب الاحترام والملائكية، لكنها تسترت على جريمة تحرش إعلاء لمصالحها على حساب معاناة الأطفال وأمنهم.
ختاماً، همسة للآباء بعدم التراشق بالاتهامات حين يواجهون مصيبة كتلك. فمن يحسب أن جريمة التحرش هي أقصى ما قد يتعرض له الأبناء يجهل معاناة الأطفال الذين يجبرهم الأهل عل التعايش مع المغتصب ومناداته ب"عمو" أو التطبيع معه.
قد يتغاضى ابنك عن عجزك إزاء جريمة كتلك لكنه لن يغفر لك التطبيع مع المغتصب أو مجاملته، تعزيته أو حتى نعيه.
قد يسامحك أن تركته وحده في الطريق عرضه للصوص يسرقونه أو مجرمين يدعسونه فبترت ساقه، لكن تراه يعفو عنك إن شاهدك تتعاقد مع المجرم على ثمن قدميه؟
🔴🔴🔴
لن أتستر على جرائم البيدوفيليا ولو كانت سمعتي هي الثمن
لقد سامحت عجزها في عدم تضامنها مع الحق
لقد تفهمت ضعفها في عدم إنصافها للمظلوم
لكنني -صدقًا- لم أحتمل سماع تصفيقها للظالم
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد
بقلم: داليا الحديدي
كاتبة مصرية
باحثة في علم النفس والصحة العقلية