السودان.. ممرضات في الخرطوم يخاطرن بحياتهن من أجل المرضى

منذ اندلاع الأعمال القتالية في العاصمة السودانية في 15 أبريل 2023، شهدت مستشفيات الخرطوم فس السودان ضغطاً متزايداً، ما دفع الطبيبة صفاء علي إلى اتخاذ قرار صعب بين واجبها المهني وعائلتها.
فقد أوضحت أنها قضت ليالي بلا نوم قبل أن تختار عدم مغادرة البلاد مع زوجها وأطفالها الأربعة إلى مصر، وفي حديثها لوكالة الصحافة الفرنسية، أكدت: "إما أن أكون مع أطفالي، أو أن أظل هنا وأنفذ واجبي المهني"، ومنذ ذلك الحين، لم تتمكن من رؤية عائلتها.
بعد مرور ما يقارب عامين على النزاع المستمر بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، تُعتبر صفاء واحدة من آخر الأطباء المتخصصين في مجال التوليد المتواجدين في العاصمة، ورغم المخاطر الكبيرة التي تواجهها، تواصل العمل في سبيل توفير فرص الولادة الآمنة للنساء السودانيات، مما يعكس التزامها العميق بمهنة الطب.
في غرفة ولادة تعرضت للتدمير نتيجة القتال المستمر، عبرت صفاء عن دوافعها بالقول إن "ما يحفزنا هو حبنا لوطننا وحبنا للمهنة التي نقوم بها والتعهد الذي قطعناه" إن إصرارها على تقديم الرعاية الصحية في ظل هذه الظروف الصعبة يعكس شجاعة الأطباء الذين يواجهون التحديات اليومية في سبيل إنقاذ الأرواح.
وصافاء علي هى جزء من فريق يضم أطباء وممرضين وفنيين وعمال نظافة، الذين قابلتهم "وكالة الصحافة الفرنسية" في آخر المستشفيات التي لا تزال تعمل في مدينة أم درمان، إحدى المدن الثلاث التي تشكل العاصمة الكبرى الخرطوم.
قد تحولت غرف العمليات إلى ميادين قتال، وتم قصف المستشفيات، كما قتل زملاؤهم في أماكن تواجدهم. ومع ذلك، ورغم القنابل والرصاص، يستمر الفريق الطبي في تقديم العلاج للمرضى يومياً.
عملت بثينة عبدالرحمن في مجال التنظيف بمستشفى "النو" بمدينة أم درمان لمدة سبع وعشرين عاماً، خلال أول ثمان وأربعين ساعة من بدء القتال، انتقلت مع عائلتها إلى حي قريب، لكنها لم تتغيب عن عملها ليوم واحد منذ ذلك الحين، وأخبرت "وكالة الصحافة الفرنسية" في المستشفى، وهى تحمل ممسحة: "كنت أستغرق ساعتين للوصول إلى المستشفى، وأقطع نفس المسافة للعودة إلى المنزل بعد انتهاء عملي".
يشهد السودان منذ أبريل نزاعاً عنيفاً بين الجيش الذي يقوده الفريق عبدالفتاح البرهان و"قوات الدعم السريع" التي يقودها نائبه السابق محمد حمدان دقلو المعروف بلقب "حميدتي".
ضحية اتهامات متكررة
تعرض العاملون في قطاع الصحة لاتهامات متكررة من المقاتلين بالتعاون مع العدو أو بالقصور في تقديم العلاج لرفاقهم. وقال الدكتور خالد عبد السلام، منسق مشروع الخرطوم في منظمة “أطباء بلا حدود”: “تعرض العاملون في القطاع الصحي لهجمات وخطف وقتل واحتجاز كرهائن مقابل فدية”.
أجبرت الحرب نحو 90% من المستشفيات في مناطق النزاع على الإغلاق، وفقًا لنقابة الأطباء السودانيين التي أفادت بمقتل 78 عاملًا صحيًا على الأقل منذ بدء النزاع. وبحلول أكتوبر، سجلت منظمة الصحة العالمية 119 هجومًا على المنشآت الصحية.
وأوضح عبد السلام للوكالة قائلاً: “لم يكن هناك أي جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي يعمل في البلاد في مرحلة ما لإجراء الفحوص الطبية”.
تترأس خنساء المعتصم فريقاً مكوناً من 180 ممرضاً ومربية في مستشفى “النو”، وهو المستشفى الوحيد الذي لا يزال يعمل في أم درمان خلال فترة الحرب، وأكدت قائلة: "هذه فرصة لي للمجيء إلى المستشفى وتقديم كل ما تعلمته من تجاربي في السنوات الماضية"، بينما أفادت منظمة “أطباء بلا حدود” أن مستشفى “النو” تعرض لثلاث ضربات مباشرة منذ بداية الحرب.
«ممنوع دخول الأسلحة»
عند مدخل المستشفى، وُضعت لافتة مكتوب عليها “ممنوع إدخال الأسلحة”، لكن هذه التعليمات غالبًا ما يتم خرقها. بعد أن اقتحمت “قوات الدعم السريع” مستشفى الولادة السعودي المجاور في بداية الحرب، استجمعت الطبيبة صفاء علي، وهي المديرة، وشجعت نفسها للتوجه نحو المقاتلين.
وروت كيف تحدثت مع قائدهم الميداني: "أبلغته أن هذا مستشفى مخصص للنساء، ثم عادوا وشنوا هجومًا عليه في اليوم التالي بزيادة عدد المقاتلين"، وفي شهر يوليو (تموز) 2023، حدثت وفاة أحد زملائها نتيجة قصف المستشفى.
اضطر المستشفى السعودي إلى إغلاق أبوابه بعد انهيار أسقفه وسرقة معداته، في حين كانت ثقوب الرصاص منتشرة على جدران غرف المواليد.
أنشأت الطبيبة صفاء علي عيادات متنقلة وجناحاً مؤقتاً للولادة في مستشفى “النو”، حتى تم إعادة افتتاح المستشفى السعودي جزئياً هذا الشهر.
منذ أن استعادت قوات الجيش السوداني الجزء الأكبر من مدينة أم درمان في بداية عام 2024، بدأت مظاهر الحياة الطبيعية بالعودة بشكل تدريجي، لكن المستشفيات ظلت تتعرض للهجمات.
«لجان الطوارئ المحلية»
في شهر فبراير الماضي، تعرض مستشفى “النو” لقصف من قبل “قوات الدعم السريع”، بينما كان الأطباء المتعبون يسعون لعلاج عشرات المصابين جراء قذائف المدفعية التي أطلقتها تلك القوات على سوق مزدحم. واضطرت المستشفيات التي لا تزال تعمل إلى الاعتماد بشكل متزايد على دعم المتطوعين من “لجان الطوارئ المحلية”.
تُعتبر لجان الأحياء جزءًا من شبكة إغاثة شعبية تقدم المساعدات في المناطق الأكثر احتياجًا في السودان، لكنها تتكوّن في الغالب من شباب سودانيين يفتقرون إلى الموارد الكافية، نظرًا لعدم وجود الأطباء المسؤولين، أصبحت طبيبة الأطفال فتحية عبد المجيد، التي لديها أربعون عامًا من الخبرة، تُعتبر بمثابة “أم” في مستشفى “البلك”.
لسنوات، كنت أقدم الرعاية الطبية للمرضى في منازلهم في حي “بانت”، وهو أحد الأحياء القديمة في مدينة أم درمان. ولكن منذ نوفمبر 2023، قمت بتدريب فرق في هذا المستشفى الصغير المزدحم، حيث كان الشبان يعملون بجد. وذكرت لوكالة الصحافة الفرنسية أن العمل كان صعباً، إلا أن “تجربتي الحالية هي أجمل ما قدمته في مسيرتي المهنية”.
رائحة كريهة
تحدث سكان أحد أحياء الخرطوم الأسبوع الماضي عن رائحة كريهة تنبعث من حفرة للصرف الصحي في منطقة دمرتها الحرب، فيما كان عناصر “الهلال الأحمر” يعملون على انتشال جثة منتفخة من تحت الأرض.
وأفاد هشام زين العابدين، مدير الطب العدلي في ولاية الخرطوم، لوكالة الصحافة الفرنسية في الموقع، بأن بعض الجثث تظهر عليها آثار إطلاق نار على رؤوسها، حيث تعاني من تهشم في الجمجمة.
وأضاف أن الضحايا إما تعرضوا لإطلاق نار أو تم ضربهم حتى الموت قبل أن يُلقى بهم في الحفرة، وخلفه كان صندوق شاحنة ممتلئاً بالجثث التي تم انتشالها من حفرة للصرف الصحي في منطقة شرق النيل، التي أصبحت الآن أنقاضاً.
تسببت الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين بين الجيش و«قوات الدعم السريع» في أضرار جسيمة لمناطق واسعة من الأراضي.
منذ بداية الحرب، هرب أكثر من 3.5 مليون شخص من سكان الخرطوم، التي كانت في الماضي مدينة مليئة بالحيوية، وفقًا للأمم المتحدة.
ويعيش ملايين آخرون غير القادرين أو غير الراغبين في المغادرة، وسط مبانٍ مهجورة وهياكل سيارات، وما يصفه الجيش بمقابر جماعية مخفية.