كتاب فلسفي جديد.. هل استلهم هيغل "مقدمة" ابن خلدون؟
بطبعة ثانية مزيدة ومنقحة، صدر حديثًا عن "دار الساقي" في بيروت كتاب "التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل" لمؤلفه الدكتور حسين هنداوي بعد ان كانت الطبعة الأولى من الكتاب لاقت استقبالا واسعا كما اثارت نقاشات اكاديمية معمقة لأهمية موضوع هذه الدراسة، الأولى من نوعها، التي اعتمدت منهجا علميا في محاولة الكشف عن ماهية وأبعاد وسبل التناظر بين أفكار ابن خلدون وهيغل حول فلسفتي التاريخ والدولة بشكل خاص.
والدكتور حسين الهنداوي شاعر وكاتب عراقي يحمل الدكتوراه في الفلسفة من فرنسا متخصصا في الفلسفة الهيغلية وله نحو عشرة كتب فيها أهمها بالفرنسية ) “Hegel et l’Islam”هيغل والاسلام(، وبالعربية "التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل"، و"هيغل والفن الإسلامي" ، و"هيغل والفلسفة الهيغلية"، و"فلاسفة التنوير والاسلام"، و"استبداد شرقي أم استبداد في الشرق؟" و"الفلسفة البابلية"، و"على ضفاف الفلسفة" و"مئة سنة من الفلسفة في العراق"، والعديد سواها.
ليست هناك نهاية في دراسة فلسفة الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831)، وكذلك الحال مع المفكر العربي عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) يرى المؤلف مشيرا الى ان الدراسات الحديثة المكرسة لكل منهما في شتّى الثقافات لم يعد من الممكن الآن إحصاؤها إلا بعد جهد جهيد رغم مرور عدة قرون على وفاتهما. لكن هذا التناظر السعيد يعكس أساساً الخصب اللامحدود في الأفكار والمنظورات المبتكرة التي حملتها آثار هذين المفكرين الكبيرين، والتي انطوت في الحالتين، على طاقة في التأثير والتغيير لم يتكهن كلاهما بها لنفسه. وهي حالة لم تتحقق في كل تاريخ الثقافة الإنسانية سوى لعدد ضئيل من العبقريات الاستثنائية والفلسفية غالباً.
إمكانية المقارنة بين ابن خلدون وهيغل
لكن الهنداوي يرى ان إمكانية المقارنة بين ابن خلدون وهيغل لا تنحصر في هذه القضية ولا في اشتغالهما بالفلسفة او إيلائهما أهمية كبرى للتفكير بالتاريخ وبالدولة، ولا بوجود تقاطعات اخرى تمتد إلى العديد من مفاهيمهما الاساسية، النظرية والسياسية، كمفكّرَين نقديين وواقعيين رغم سعة المسافة الزمانية- المكانية الكبيرة التي تفصل بين انتماءيهما الحضاريين، أي بين الشرق الإسلامي في القرن الرابع عشر، والغرب المسيحي في القرن التاسع عشر. انما لوجود تناظرات مثيرة بين «دروس» التاريخ الهيغلية و«العبر» الخلدونية، لا يقتصر على الإصرار على تحكيم العقل في قراءة صيرورة التاريخ الإنساني الفعلية، ولا على هاجس الشمولية والموضوعية النقدية في التعامل مع ظواهرها، ولا على المركزية الكبرى التي يمتلكها المفهوم الدوري في تفسير التاريخ كما في حياة الدولة لدى كل منهما على حد سواء، إنما يجد ذلك التناظر حاضراً حتى في هيكل المنهج الفلسفي والحركة المنطقية الداخلية التي تحكمه لديهما معا. فالانتقال من نقد المؤرخين السابقين إلى تحديد المفهوم الصحيح لـ «حقيقة التاريخ»، ومن هذا إلى تبيان دور العوامل الطبيعية (المناخ، التضاريس، القارات، الغذاء...) في لعب دور حاسم في صنع الحضارات، ومكانة الصراع الخلاق وديالكتيكه الخاص في كل ذلك، ومنها إلى كافة الموضوعات الأخرى، يوحي أن ثمة علاقة تواصل ما تقوم، ولو من بعيد، بين فلسفتي التاريخ الخلدونية والهيغلية، وتسمح بذاتها بنقل إمكانية المقارنة بينهما من مرحلتها كمجرد هاجس معرفي عابر إلى طرحها كضرورة علمية بكل معنى الكلمة، لاسيما وأنه قد أصبح من الثابت الآن، أن ابن خلدون هو مؤسس دراسة التاريخ كفرع من فروع الفلسفة، وبالتالي مؤسس فلسفة التاريخ قبل هيغل بأربعة قرون، كما أن نظريته في هذه الفلسفة، تظل المحاولة النظرية الأهم حتى العصر الحديث، أو حتى هيغل على الأقل.
ومن المعروف أن جعل «مقدمة» ابن خلدون منبعاً لأفكار مهمة وجوهرية في علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة وحتى الاقتصاد السياسي أخذ في العقود الأخيرة صيغاً قطعية بشأن عدد مهم من الفلاسفة الغربيين الكبار ومن مختلف البلدان كالمفكر الايطالي الفلورنسي الشهير، ومؤسس المدرسة الواقعية في الإدارة السياسية والحكم، نيكولو مكيافيللي (1469-1527) الذي عاش إبان عصر النهضة واشتهر بكتابه "الأمير" المكتوب في 1513، أو الكاتب والمؤرخ الإيطالي غامباتستا ڤيكو (1668-1744) الذي عُدّ بفضل كتابه "مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم" الصادر في 1725، اول فيلسوف للتاريخ في العصر الحديث، او المفكر السياسي الفرنسي شارل مونتسكيو (1689-1755) الذي تنسب له نظرية فصل السلطات التي عبرت عنها مؤلفاته العديدة واشهرها "روح القوانين" الصادر لأول مرة في عام 1748، وحتى كارل ماركس الفيلسوف والاقتصادي الالماني ومؤسس النظرية المادية التاريخية والرائد في الحركة الاشتراكية والشيوعية في العالم ومؤلف العديد من المؤلفات والفكرية الشهيرة عالميا وأهمُها "البيان الشيوعي" (1848)، و"رأس المال" (1867).
إذ هناك بالفعل، ما يوحي بوجود تأثيرات لافكار ابن خلدون في جانب أو غيره في معظم المحاولات الكبرى اللاحقة عليه، التي اهتمت بقراءة موضوعات التاريخ او الدولة فلسفياً أو نظرياً، إلى درجة من الصعب أن نجد مفكراً حديثاً، في ميدان التاريخ وحتى الاجتماع والاقتصاد السياسي، لم يقارن بابن خلدون. لكن هذا النزوع، وهذه ظاهرة مثيرة، لم يشمل هيغل إلا بتردد، كما لو أن المقارنة بينه وبين ابن خلدون تنطوي في نظرهم على مخاطرة مجهولة النتائج لأسباب كثيرة، ليس ضخامة وعمق ونفوذ العمل الفلسفي الهيغلي إلا بعضها، وكأن هوّة سحيقة تفصل بين نظريته والنظرية الخلدونية حول التاريخ وكذلك حول الدولة.
من هنا خصوصية هذه الدراسة التفصيلية عن العلاقة بين نظريتي التاريخ والدولة لدى هيغل وابن خلدون. بلا شك، ثمة استفهامات، نادرة في الواقع، طرحت هنا او هناك عن احتمال تسلل فكرة خلدونية أو أخرى إلى فلسفة التاريخ او الدولة لدى هيغل. إلا أن الأمر يتوقف عند هذه الحدود، أي على مجرد استفهامات عابرة من جهة، وعلى أن العلاقة المفترضة، أو المحتملة، لا تتجاوز في أحسن الأحوال انعكاسات غير مباشرة وبعيدة جداً. وإذا كان هذا الافتراض يشمل شتّى المداخلات التي أشارت إلى هذا الموضوع، فذلك ربما بسبب سيادة الاعتقاد لدى كثيرين بأن هيغل لم يكن في وسعه الاطلاع، بشكل مباشر او غير مباشر، على «مقدمة» ابن خلدون، نظراً إلى أنها لم تظهر في أول ترجمة أوربية كاملة او وافية لها، إلا بعد أكثر من عشرين سنة على وفاة هيغل.
وقد عزز هذا التصور أن هذا الفيلسوف الألماني الذي لم يتردد في ذكر مصادره المهمة، الغربية منها والشرقية بما فيها الاسلامية، لا يذكر ابن خلدون على الاطلاق، لا في مؤلفاته التي نشرها بنفسه، ولا في المخطوطات التي وجدت بين آثاره، ولا في محاضراته البرلينية التي نشرت بعد رحيله. وكذلك الحال بالنسبة إلى مراسلاته الضخمة. فبعد تنقيب دقيق اجراه المؤلف في مجلداتها العديدة التي نشرت حديثاً، لم يعثر على أي إشارة توحي بأن هيغل عرف ابن خلدون أدنى معرفة. بل على العكس، وجدناه ينفي أي إمكانية لظهور مفكر تاريخي في الشرق الإسلامي، وكل الشرق، حيث يرى في «دروس حول فلسفة التاريخ»، أن الحضارات الشرقية، لاسيما الإسلامية منها، عجزت عن تحقيق أي تطور فعلي في ميدان علم التاريخ، إنما واصل المؤرخون فيها اجترار الأساليب نفسها والتقاليد العتيقة الموروثة منذ أقدم الأزمنة، وأظهروا غفلة شاملة عن ضرورة جعل الدولة وتطورها أساساً ومحوراً لمدوناتهم التاريخية.
هذا الاستنتاج يوحي بان هيغل اطلع على بعض كتابات المؤرخين المسلمين المترجمة الى بعض اللغات الاوربية ومنها تلك التي نشرها المستشرق بوكوك في مؤلف شهير بعنوان “مقتطفات من التاريخ العربي” صدر باللاتينية في أكسفورد في عام 1650 وتضمن نصوصأ كثيرة للبلاذري وأبي الفرج الاصفهاني والمسعودي والطبري وعشرات المؤرخين والكتاب المسلمين الآخرين فضلا عن فصول أخرى من “مختصر تاريخ البشر“ لابي الفداء، و“كتاب الجغرافيا" للشريف الادريسي وغيرها.
والحال كلما تعمقنا أكثر في دراسة دواخل فلسفة التاريخ الهيغلية، أدهشتنا أكثر قوة الوشائج التي تؤلف بينها وبين فلسفة التاريخ الخلدونية. الى حد الاعتقاد بأن ما في فلسفة هيغل حول التاريخ والدولة من آثار خلدونية، يتجاوز ما يناظرها لدى المفكرين الغربيين الآخرين، الذين سبقوه إلى الاهتمام بهذا المجال، لاسيما وأن بعضها يمس جوانب جوهرية جداً من مكوناتها، وبدرجة من قوة العلاقة تصعب معها تماماً إمكانية اعتبارها بنت صدفة مهما كانت عجيبة.
على هذا الأساس، ولأن الفكر الخلدوني سبق نظيره الهيغلي بأكثر من أربعة قرون، يصبح من الطبيعي، والمشروع علمياً، البحث عن المصدر الواقعي لهذه التماثلات. وفي ضوء ذلك، يمكن اختبار احتمالية وجود تأثيرات فعلية، مباشرة أو غير مباشرة، مارستها الأفكار الخلدونية على نظيرتها الهيغلية في ميدان فلسفتي التاريخ والدولة.
هذا الجانب بالذات، هو ما تقدم عليه هذه الدراسة، لكن دون ابتسار أو تعسّفٍ في الواقع. فمن المعروف ان هناك مصادر مشتركة بينهما، كبعض مؤلفات أرسطو مثلاً، كما أن هناك، بالطبع، فوارق جوهرية عديدة تفصلهما من الجهل إغفالها. ويؤكد المؤلف أن فلسفة التاريخ الهيغلية هي التي قادته إلى اكتشاف علاقة لها مع فلسفة التاريخ الخلدونية وليس العكس. بعبارة أخرى، إنه لم ينطلق من مفاهيم ابن خلدون ليعثر لها، بأي ثمن، وبقرار مسبق، على امتدادات عند المفكرين اللاحقين وهيغل منهم، إنما انطلق من المفاهيم التاريخية الهيغلية ذاتها ليبحث عن أصول لها في الفكر السابق عليها. وهو منهج يشرّعه الديالكتيك الهيغلي نفسه كما يرى، عبر تأكيده الثابت على إقصاء الصدفة ومحاربة فرضية وجودها، الشيء الذي يعني ضمناً، أن كل ظاهرة، والفكرة الفلسفية هي ظاهرة، لا يمكن ان تولد دفعة واحدة حتى إذا بدت كذلك، إنما لابد ان تكون قد ظهرت في لحظة سابقة، في شكل جنين أو نطفة، ثم أخذت أشكالها المتطورة لاحقاً. فللفكرة الفلسفية، كل فكرة، تاريخ هي أيضاً، وعلى البحث الدقيق أن يكشف عن حقيقة هذا التاريخ لذاتها.
في فصول الكتاب الأخرى يناقش الهنداوي موضوع ما قبل «فلسفة التاريخ» بين لحظة التأسيس السومرية لعلم التاريخ وصولا الى مفهوم "العلم الجديد" لدى ابن خلدون وانتقاله الى أوروبا على يد الإيطالي فيكو قبل ان يتكرس الكتاب لمقارنة فلسفتي التاريخ والدولة لدى كل من ابن خلدون وهيغل من كل جوانبهما قبل ان يحاول طرح الامكانية الموضوعية لاطلاع هيغل على «المقدمة» رغم غياب الشواهد المباشرة.
ويختم المؤلف استنتاجات بالقول في مقدمته انه وسواء ثبتت استفادة الفكر التاريخي الهيغلي من نظيره الخلدوني أم لم تثبت، وسواء تأثر هيغل بابن خلدون أم لم يتأثر، فإن أصالة الفلسفة الهيغلية وعبقريتها في الميادين الأخرى، وأيضاً في ميدان فلسفة التاريخ والدولة، هما حقيقة لا يطالها الشك.