مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

داليا الحديدي تكتب: بائعة الخمور

نشر
داليا الحديدي
داليا الحديدي

اعتلت صغيرتي "كارما الحديدي سلام" أمس مسرح "جامعة نوتنجهام" لتؤدي أولى أدوارها المسرحية، ولا يسعني اليوم ونحن نحتفل بيوم المرأة العالمي سوى القول بأن بشائر تلك الصبية كانت واعدة بمولد امرأة بدرجة فنانة وممثلة بارعة، كما وإنسانة تحمل في داخلها الطفولة الأبدية، حتى أطلقنا عليها المفردة الإنجليزية BéBé Karma

فقد كانت وما زالت تعج بطفولة آسرة، حافظت عليها حفاظ "إليزابيث" على عرشها. وحتى حين كانت تكح، كان الفرح يترنح في دارنا من مبسمها طربًا، ومعه الأثير يتراقص كبجعة على رعشة نهاوند "كح كح". 

عرفت  "كارما" بنظرة الشك التي لا تسكن سوى بعيد التحديق ببصر أمها لتطمئن أن الأمور على ما يرام.

هرولت السنوات وفوجئت أن مدارك صغيرتي التي لطالما تعاملت مع اللون الأصفر كهوية كونه كان عنوانًا لفصلها "كي جي 2 يالو" شرعت تناطح السحب وبدأت بوادر موهبتها الفنية تتخطى الرقاب بحضور واثق حلّ محل الشك، ربما لتمكنها من تقليد اللهجات، كما كانت عربيتها فصيحة، مكتسبة من مطالعتها للرسوم المتحركة. كذلك، أجادت كارما اللهجات العربية، عدا الإنجليزية بنكهة هندية أو بصوت أيرلندي تارة، وبلسان اسكتلندي تارة أخرى وبمنطوق فرنسي وأمريكي تارات. 

وبدأت جغرافية موهبتها تفرض خريطتها وترسم معالمها، وأشهد أنها حفرت الأخاديد ومهدت لنفسها الأزقة وحين ازدحمت ميادين مدينتها وأوشكت الأرصفة على الهروب من المارة وساعة هددت الأسوار بلفظ الأحرار، قفزت الصغيرة بسهم زان لمدينة نائية لتدرس فن التمثيل.

ولا أعلم تفسيرًا لما طرأ على ابنتي سوى أنني أغلقت أمامها شاشات التلفاز بمحليّتها وفتحت لها نوافذ المعرفة الفضائية على مصراعيها، فنالت نصيبًا من الهواء. ورأت ثروات من أنعم ومصائب الخلائق رؤية العين، فقفز وعيها لشاهق يوم شاهدت من عبّدتهم طرقات المسير فيما آخرين عبّدوا الطريق وقادوا المصير ففطنت لفضيلة الانتقاء واختارت الوقوف مع الأحرار.

علمًا أنه من الصعب على بنات العالم المنغلق اللائي لم يخرجن من قراهن أن يشعرن بالاختناق من غيوم العبودية فقد تبلدت الكرامة لتلبد السماء، فغربت حياتهن في القبور دون يوم واحد مشمس أو حر.

ولولا أن تدارك المستقبل أجدى من التحسف على الماضي لأعلنت أسفي على عمر مهدر، امتثالًا لحشود طافت فطفْتُ معها معصوبة العينين دون تفكير خشية التكفير، طفت كجاموس حول طاحونة لا تعلم شيئًا عما تطحن، وإنني لسعيدة يا ابنتي للمتاح لك من نوافذ مفتوحة لاستنشاق هواء فكري أنقى مما استنشقت.

سألتني يومًا: من أنا؟ فأخبرتها أنها فنانة، وأني شاهدة على موهبتها لما تتمتع به من ملكات في التمثيل والتقليد والأداء، بالإضافة إلى تنسيق الملابس وعمل المكياج الاحترافي للشخصيات، فضلًا عن قدرتها على سبر أغوار الشخصيات. وأخبرتها أنه لو قُدّر لتشارلي شابلن مقابلتها، لخطفها لتشاركه أعماله. لكني حذرتها من إهمال موهبتها خشية أن يخذلها النجاح، وقصصت عليها كيف انتصرت سناء جميل لموهبتها بهروبها من بطش أخيها الذي ضربها فأصابها بالصمم! ولم تعبأ بأن هروبها تزامن مع يوم حريق القاهرة. 

احترقت العاصمة، بينما بقيت موهبة سناء جميل مشتعلة حتى بعد رحيلها. 

"كارما" هي أكثر أبنائي تمتعًا بالثقة في قدراتها، فلطالما وقفت قبالة المرآة تخاطب خالقها بإنجليزيتها السليمة:

 "Oh Lord, you created a masterpiece. Thank you."

وبالتوازي مع الثقة، حازت أيضًا خصالًا إنسانية مرهفة، وروحًا مرحة، وسرعة استيعاب جعلتها تحصد نتائج باهرة في دراستها. وقد جمعتني بها صداقة حميمية لم أكن أحلم بها رغم اجتهادي لنيلها، فأنا أستشيرها في جلّ الأمور ودقّها. ولا أنسى أنني ذهبت قبيل سفري لشراء بنطال قصير للمصيف، وعندما لمست غلاء الأسعار في متجر "مانجو"، حيث تجاوز ثمن القطعة المائة دولار، هاتفتها متحيرة، فأشارت بعدم الشراء.

طفت حول المتجر طواف الوداع، ونفسي توسوس لي بالاقتناء، فيدي تمتد لحافظتي، بينما قلبي يتحرج محذرًا من مخالفة رأي ابنتي بعد استشارتها، خشية اهتزاز ثقتها بأهلية رأيها للأخذ بعين الاعتبار. 

قفلت عائدة للدار وفي نيتي زيارة المتجر ثانية بعد إقناعها. ودخلت مخدعي، فوجدت أربعة من البناطيل القصيرة منثورة على سريري. فقد فتحت ابنتي خزانة أخيها وأخرجت منها قطعًا قديمة ضاقت عليه، ثم قامت بقصها وخياطتها وتصغيرها لتناسب قياساتي.

 كلما تذكرت تلك الواقعة، تبين لي أن مقولة "الحاجة هي أم الاختراع"، تحتاج إلى الاعتراف بأن الحب هو أبوه.

 ها قد أعلنت إيماني بموهبتك يا أعز الناس، وفي الوقت ذاته، أرجو أن يصلك أن أحد عوامل النجاح هو القدرة على التخطي، سواء تخطي الفشل أو تجاوز النفوس التي تتفنن في هدم ما عجزت عن بلوغه. 

عندما تقابلين حاقداً، مطفف أو متغطرس، لا تستنزفي وقتك وطاقتك في محاولة معرفة أسباب كراهيتهم أو تعاليهم أو تقليلهم من شأنك أو سعيهم لتشويه سمعتك وصورتك أمام الآخرين أو حتى خذلانك بحيادهم وصمتهم وهم شهود على ظلم وقع عليك. فالنجاح، قرين الغيرة، وله أعداء؛ فالحقد والحنق توأمان غير شرعيين، وهما كفيلان باختلاق الادعاءات وإفساد الصداقات الزائفة.

كذلك يعد التميز يعد تربة خصبة تهيج المحيط الهادئ، لأنه فرصة للصعود للقمم فيما المنافس قابع في القاع علمًا بأن الدناوة لا قاع لها، وقد يترجمه البعض على أنه تعدٍ على مكانتهم أو تفوق عليهم. لذلك، ستصادفين من يكرهك ويتمنى التقليل من شأنك أو رمي الاتهامات جزافً ضدك، لأنه يتأذى عندما يعلم أنك سافرت إلى دول لم تطأها قدماه، رغم أنك لم تسرقي تذكرته. وهناك من يتمنى الدور الذي اعتبرته صغيرًا، رغم أنك لم تشترطي استبعاد زميلك لتولي هذا الدور. كل ما عليك هو تجاهل محاولات التقليل من شأنك، فمثابرتك على الوقوف بعد الكبوات هي الفيصل.

النجاح لا يتضاد مع الفشل، النجاح يتعارض مع الارجائيات ومع عدم المثابرة لتكرار محاولات يتمخض عنها ولادة النجاح. ومع صعوبة اعتراف القريب بتفوقك وندرة وجود زميل يدفع زميله للتفوق، فإن عثرت عليه فهو كنز جدير بالتقدير.

علمًا بأن العلاقات المؤذية تسهل عبورك الآمن من دروب حب الآخر الممعن في تطفيف قدرك، لأزقة احترامك لذاتك.

سألتني بالأمس من أنا، فأخبرتك أنك فنانة، أمّا اليوم فأقول لك إن أنانا هي نتاج مخزون خبراتنا وخلاصة تراكمات قناعتنا المصنوعة بتعاقب مسامير دقت مرارًا على وعينا فشكلت من استدامة الدق إدراكنا ونحتت حفريات من ركام ذكرياتنا.

 قد تشعرين أنك لم تنالي بعد نجاح مدوٍ يكون أهلًا لهذا التحذير، ولكن تذكري أن الدنيا محسدة، محقدة، وقد يغتصب أحدهم ابتسامتك التي أرادها للثغرة أو يستكثر عليك مكانتك التي اشتهاها لنفسه، أو إشادة بك تمناها من نصيبه، أو حتى غمازتك التي التمسها لتخترق خده. فلا تتفاجئين بصفعات ما بعد التصفيق.

دعني أذكر لك تلك الواقعة، فقد أرسلت لي إدارة التحرير بموقع صحفي عملت به قبل سنوات خطاب شكر على تحقيق صحفي متميز كنت قد أجرَيْته، مجرد خطاب يحمل كلمات للتشجيع ليس إلا، بل وخالٍ من أي حوافز مالية. بعدها، جاءني زميل ليسألني: أحقا ما يشاع حولك من أنك بائعة خمور؟ 

:ها..ها؟ وكررتها، فقد عقدت الدهشة لساني. 

 بالفعل صُدمت حتى إنني لم أنكر ولم أجبه. فقد استغلق عليّ الأمر وارتج القول. ورغم أن الزميل كان معروفًا بهواية "بخ" الكلام وإطلاق الشائعات على الجميع لدهس سمعة الزملاء إلا أنني لم أكن وقتها قادرة على إيجاد علاقة ربط بين خطاب الشكر وبين الضغينة التي حملها بقلبه تجاهي، حتى إنني لم أسأله عن مصدر هذا الهراء. فقط تركته ومضيت.

 بائعة خمور؟!!

 وحين أخبرت زوجي وزملائي راحوا يترنحون في وصلة ضحك.قد أكد لي الزملاء أن ما نجا أحدًا من إشاعاته قط. 

بعدها بشهور وبينما كان زميلنا مروج الإشاعات يرجع إلى الخلف لصف سيارته بمرفأ داره، دهس ابنته الصغيرة فأرداها قتيلة! بعد تلك الحادثة صمت الزميل إلى الأبد، وأصبت والزملاء جميعهم بحزن مرير أصعب من أي شماتة.

ربما تحسبين أن التفوق الدراسي أو أي ميزة لك ليست مدعاة لإثارة الحزازيات، وقد تشعرين أنك ببداية مشوارك، ووقوفك على المسرح لن يجلب لك الأحقاد، أرجو ذلك، بل أعلم بوجود أعداد غفيرة تسعد لنجاح الغير، لكني أؤكد لك أنك تمتلكين عامل التميز "إكس فاكتور"، وهو كفيل بإثارة كراهية الطفيليين لك. وعمومًا، أغلبنا يشعر بحصانة من مصائب الغير حتى يضرب في مقتل.

وأخيرًا، أنا ممتنة لأنك ألحقت اسمك"كارما الحديدي سلام" الفني باسمي أسوة باقتران اسم والدك باسمك في الأوراق الرسمية. كل التوفيق لك ولكل أبناء العالم.

من مكتبي في الدوحة، اعتز بأنه في يوم المرأة العالمي أكتب لك تلك السطور احتفاء بابنتي وبكل امرأة تطور من نفسها  وافتش في الصور والخرائط والطرقات عن مسير كان مشتركًا ومصير كان واحدًا لأربع. 

 ثقيلة كديون النهار هذه الليالي الشتوية 

صلدة لا تمحى .. كأسرار الطفولة 

ومواسم كانت بوجودكم تحييني باتت لفراقكم تنهيني 

كل شيء غير موجود بغياب عناق ابنتي وريق ثغرها على جبهتي.